حوار| أحمد عبد المعطى حجازى: 30 يونيو هزمت «الجماعة الإرهابية».. ونخبتنا المثقفة مفككة

حوار| أحمد عبد المعطى حجازى: 30 يونيو هزمت «الجماعة الإرهابية».. ونخبتنا المثقفة مفككة
حوار| أحمد عبد المعطى حجازى: 30 يونيو هزمت «الجماعة الإرهابية».. ونخبتنا المثقفة مفككة

-  خلط الدين بالسياسة بداية الإرهاب.. وكل الجماعات المتطرفة خرجت من عباءتهم

-  التيارات المتعصبة عادت للظهور فى أوروبا.. وتغيير صورتنا ضرورة ملحة

وعكة صحية ألمَّت مؤخرًا بالشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى لزم على أثرها العناية المركزة لعدة أيام، كما اعتذر عن عدم حضور بعض الندوات المصرية والعربية.. غير أنه لم يتأخر أبدًا حين عرضت عليه «الأخبار» التحاور معها، بل أجابها مُرحبًا مسرورًا.. وحجازى، مفكر، له صولاته فى مواجهة الفكر المتطرف، وقبل هذا هو أحد فرسان الجيل الثانى للقصيدة العربية الحديثة الذين أسهموا فى إذكاء نارها وإعادة انبعاثها؛ ومنذ مولده بمركز تلا بمحافظة المنوفية - وحتى اغترابه الأول إلى القاهرة، واغترابه الثانى إلى باريس- وهو يحمل على عاتقه طموحات الارتقاء بالثقافة العربية لتكون خط المواجهة الأول للتطرف الفكرى.. توصيف للأدواء المزمنة التى يئن منها الواقع العربي، ولائحة للدواء فى هذا الحوار:


> تعيش فى فرنسا منذ أمد بعيد.. لماذا توجد حالة خوف مزمن من الإسلام فى الدول الغربية؟


-أسباب هذه الظاهرة مشتركة بين المسلمين من ناحية والأوروبيين من ناحية أخرى، فالأوروبيون ليسوا كلهم متسامحين، هم متحضرون؛ ولكن فريقًا منهم متعصب ومتزمت وعنصرى، وهذه النزعات أو التيارات تظهر وتخفي؛ فى المرحلة التى كانت بين الحرب الأولى والحرب الثانية كانت الأحزاب الفاشية منتشرة فى أوروبا وقوية، ووصلت للسلطة، وكانت موجودة فى إيطاليا وألمانيا وإسبانيا بعد ذلك، وفى اليونان، ثم تراجعت بعد هزيمة هذه النظم فى الحرب الثانية ثم نشطت الأحزاب الاشتراكية، لكن الآن ومنذ فترة بدأت هذه الأحزاب تنشط من جديد وتجد من يلتف حولها ويقف إلى جانبها، كما نجد مثلًا فى حزب الجبهة الوطنية فى فرنسا وفى أحزاب أخرى موجودة، وهناك حزب نازى جديد فى ألمانيا مثلًا.


بالقانون الإلهى!


> وماذا عن الجزء الذى يشترك فيه المسلمون؟


-من ناحيتنا أنت ترى أن الجماعات الإسلامية السياسية نشطت جدًّا هى الأخرى، خاصة بعد هزيمة 67، وقد استعاد الإخوان نشاطهم واستردوا أنفاسهم ووجدوا أيضًا فى السلطة من يحتضنهم وينتفع بهم ويستخدمهم وهو الرئيس السادات، ووصلت الأمور إلى ما وصلت إليه فى العقدين الأخيرين حين استطاع الإخوان والسلفيون أن يصلوا إلى السلطة فى مصر.. والجماعات الدينية ليست سياسية فقط، وإنما لا بد أن تكون فى النهاية إرهابية، لأن استخدام الدين فى السياسة لا ينتج إلا الإرهاب، ولأن الذين يريدون الدولة يريدون الدولة الدينية يعتقدون أنهم على حق وأن هذا قانون إلهي، ولذلك لا يمكن أن يدخلوا فى حوار أو فى مفاوضة ولا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين، ومن الممكن أن يوزعوا الأدوار، فالإخوان تخرج منهم الجماعة الإسلامية والجماعات الأخرى بما فيها داعش؛ لأن هذه الجماعات كلها خارجة من عباءة الإسلام.. وهذه الجماعات لا يقتصر نشاطها داخل البلاد العربية والإسلامية وإنما تنشط أيضًا فى أوربا؛ ولا تنشط هناك بالدعوة وإنما بالإرهاب.. وفى مقابل هذا الإرهابى الذى أطلق الرصاص على المصلين فى نيوزيلاندا، تجد أيضًا إرهابيين مسلمين يفجرون السيارات والطائرات.
> ولكن هناك تصورًا جاهزًا عند الغرب بأن الإسلام دين غير قابل للتطور.. ومن ثم يجب القضاء عليه أو تفريغه من مضمونه.. كيف ترى هذا؟
- نستطيع أن نجد بالفعل هؤلاء الذين يعتقدون بعدم قدرة الإسلام على التطور، لكن أيضًا فى المقابل نجد أن فريقًا من المسلمين يتبنون ذات الفكرة بأن الإسلام ليس دينا فقط وإنما هو دين ودولة، وهذا هو الشعار الذى يرفعه الإخوان المسلمون.


دولة وطنية


> ربما يقولون إن الرسول كان زعيمًا دينيا وكان قائدًا للدولة فى الوقت نفسه!


- هناك فرق بين الرسول وبيننا، الإخوان بشر عاديون وليسوا رسلًا، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نحن نتحدث عن الدول الوطنية الحديثة التى يجب أن تحل محل الدول الدينية.. والدول الدينية كانت موجودة أيضًا أيام الرسول، فى بيزنطة وأوروبا الغربية وغيرها، لأن الدين آنذاك كان الجامعة الأساسية، والمؤسسة الدينية كانت موجودة فى كل العواصم، وهناك فرق بين ما كان يحدث فى العصور الوسطى وما يجب أن يحدث الآن.. الإسلام ليس فيه كنيسة، كما أن الدين بطبيعته ينظم العلاقة بين الإنسان وربه، لأن الله باق خالد.. والعلاقة التى بين الإنسان والله علاقة ثابتة ولكن العلاقة التى بيننا وبين أنفسنا وبيننا وبين الزمن والمكان متغيرة، لأننا نتطور ومطالبنا تختلف، ولا يمكن أن يكون ما يحدث فى الهند هو نفسه ما يحدث فى مصر مثلًا؛ ومن هنا يوجد خوف من الإسلام فى أوروبا وهو خوف مبالغ فيه ويستغله الفاشيون والنازيون الجدد لكى يعملوا على إيقاف هجرة المسلمين إلى أوروبا أو طرد الموجودين إن استطاعوا؛ وهناك من بين المسلمين من يساعدونهم فى هذا من أولئك الذين يعيشون فى عزلة ولا يريدون الاندماج فى المجتمع الأوربي.. وتجد أن بعضهم يصر على أن يكون مختلفا فى كل شيء فى الكلام وفى التفكير وفى الزى، ولا يريد الاحتفال بعيد الأضحى فى بيته وإنما فى الشارع فتراه يذبح الأضحية فى وسط الشارع بضواحى باريس؛ وهذا النوع من المسلمين لا يسمح بتغيير فكرة المتعصبين ضد الإسلام.. ولذلك علينا أن نصلح أنفسنا وأن نساعد الآخرين فى إصلاح فكرتهم عنا.. أما أن نعتقد أنفسنا دائمًا على حق وأن الآخرين يكرهون الإسلام فإننا نعلق أخطاءنا على شماعة الآخرين.


وطنية 1919


> فى هذا العام تمر مائة عام على ثورة 1919.. لماذا تعثرت خطوات المشروع التنويرى الوطنى الذى بدأته تلك الثورة سياسيا وأكمله الإمام محمد عبده دينيًّا؟


-ثورة 19 انتصرت لا شك، لأنها جمعت المصريين جميعًا حول شعار الاستقلال واجتمعوا أيضًا حول شعار الوطنية.. وقبل الثورة بسنوات حدثت مشادات ومصادمات، وبعضهم كانوا يثيرون المسلمين ضد المسيحيين والعكس، لكن الثورة جاءت لكى توحد المصريين وترفع شعار: الدين لله والوطن للجميع.. ولذلك نجحت فى فكرة المواطنة وفكرة الاستقلال وأيضًا فصل الدين عن الدولة.. صحيح أننا نجد فى الدستور الآن مواد تتحدث عن دين الدولة، ولكننا إذا قارنا بين دستور 1923 وبين الدساتير الأخيرة نجده الأفضل.


> من ينظر إلى تراث حسن البنا وجماعته يجد أنهم لا يملكون منهجًا فكريا حقيقيا.. فكيف إذن تفسر تجذرهم فى الشارع العربى طوال هذه السنوات؟


- عندما نجد أن مصر لم تخرج من العصور الوسطى إلا فى القرن التاسع عشر، أكثر من 20 قرنا كانت محكومة بالدين، منذ دخلت المسيحية مصر حتى ثورة 1919؛ وبشكل عام كانت الثقافة السائدة دينية، ولكنها تراجعت لصالح الثقافة الوطنية بداية منذ ثورة 1919، لكن ما لبثت الجماعات الإسلامية أن وقفت فى وجه الأحزاب السياسية العلمانية كما حدث فى العشرينيات مع حزب الوفد، وهو حزب علمانى يقول إن الدين لله والوطن للجميع، وفى عام 1928 ظهر الإخوان المسلمون لكى يواجهوا هذا الحزب العلمانى بحزب ديني، وفى البداية يعملون فى تستر وكانوا يحصلون على مساعدات من الإنجليز ومن العاملين الأجانب فى شركة قناة السويس وقتها، حتى إذا وجدوا فى أنفسهم قوة تحولوا إلى إرهابيين.. وفى الأربعينيات انتقلوا من الخطابة إلى إطلاق الرصاص على المخالفين.. وبعد وصول الضباط إلى السلطة قضوا على الأحزاب السياسية وعلى الديمقراطية فأفسحوا المجال لنمو الجماعات الإرهابية، صحيح أنهم اصطدموا بالإخوان، لكن ليس بفكر الإخوان ولكن بتيار آخر يريد الحصول على السلطة، أو يقتسمها معهم رغم أنهم بدأوا معًا.


تزييف!


> إذن..لماذا استجاب الشارع للإخوان رغم أنهم يستغلونه فقطللوصول للسلطة؟


- منذ أن ظهر الإخوان أخذوا يزيفون الأمور عند جمهور المصريين ويحدثونهم عن أمجاد الماضي، فى الوقت الذى كانت الحياة السياسية المصرية تتحرك بشكل عملى فى إنشاء الأحزاب ومفاوضة الإنجليز للحصول على الاستقلال الكامل، لكن الإخوان كانوا يتحدثون عن الماضى وأمجاده واستغلاله لمصلحتهم، دون النظر إلى المستقبل والشروط الحياتية التى تختلف تمامًا عما حدث من قبل.


> إلى أى مدى أسهمت هذه الانغلاقية الإخوانية فى تراجع الدور الثقافى المؤسسي؟


-الحقيقة أن الإخوان والسلطة كانا سببًا فى تراجع الدور الثقافى بالمجتمع، السلطة كانت باستمرار-لا أقول ضد الثقافة- ولكنها كانت تخاف من أن تُتهم بأنها ضد الدين، ولذلك عندما نسأل عن موقف السلطة من طه حسين فى كتابه «فى الشعر الجاهلي» سنجد أنها كانت ضده وفصلته من الجامعة، وهونفسه موقف السلطة من على عبد الرازق وخالد محمد خالد ونصر حامد أبو زيد وفرج فودة والآن إسلام بحيرى وغيرهم.. فأنت تجد موقف الإخوان الذين استطاعوا تحويل الشارع إلى سند لهم وموقف السلطة التى تخاف من الاتهام بأنها ضد الدين واحدًا، والنتيجة هذا الموقف السلبى الدائم من قضية التفكير والتعبير.


> الثورات دائمًا إبداع وتغيير.. لماذا كانت الأمور مغايرة فى الربيع العربي؟


-أقول إن ثورات الربيع العربى لم تحقق أهدافها حتى الآن، الأهداف السياسية والأهداف الفكرية، بالطبع هذا جانب سلبي.. لكننا لا نستطيع أن نقول إنها لن تتحقق، ومن الجائز أن هذه الثورات التى حدثت بصورة رائعة تسترد أنفاسها وتتمكن من مواصلة طريقها مرة أخرى.


> كيف يكون ذلك؟ وما الذى حدث وأدى إلى توقف المد؟


-الذى حدث بكل بساطة هو عدم وجود قيادة.. وهذا غير ما حدث فى ثورة 1919 مثلًا التى كانت تضم أسماء لامعة:سعد زغلول والنحاس وعبد العزيز فهمى ولطفى السيد وغيرهم.


موقف ضعيف


> فى 30 يونيو اندحر الإخوان شعبيا وسلطويا، فهل ترى أن الوعى الجمعى انتصر تمامًا أم لا تزال هناك بقايا تعبث به؟


-لا شك أن الإخوان الآن فى موقف ضعيف ومهزوز فكريا وتنظيميا.. هم الآن عاجزون، لكن عجزهم ليس كل شيء، لأن الآخرين أيضًا عاجزون، وأنا أعد نفسى واحدًا من هؤلاء الآخرين الذين يواجهون الإخوان وهم النخبة المثقفة والقوى الوطنية بشكل عام، لأنهم لم يتمكنوا من تنظيم أنفسهم ومن لمِّ شتاتهم ولم يجتمعوا على فكرة،وهذه نتيجة منطقية لما عشناه منذ سنة 52 حتى الآن، حيث لم نعش حياة سياسية منظمة، بوجود أحزاب قوية، وسلطة تأتى عن طريق الانتخابات؛ مع أن أسبابا كثيرة كانت تدعو إلى هذا التغيير، فقد تعرضنا لهزائم كانت دافعة للتغيير.. وكل هذا لم يساعدنا على بلورة اتجاهاتنا وأفكارنا وأهدافنا وتنظيم أنفسنا لمواصلة حياتنا بصورة أكبر.


تجديد الخطاب


> هناك من يرى أن عدم انفتاح المؤسسات الدينية العربية وعلى رأسها الأزهر على المناهج الحديثة فى قراءة التراث وتفكيك الأفكار القديمة كان سببًا فى تغول التطرف؟


-نحن بشكل عام نطالب بتجديد الخطاب الدينى منذ حسن العطار وحتى الآن، ولكننا لا نُجدده،وعلماء الأزهر فى مقدمة القادرين على هذا التجديد، وغيرهم أيضًا قادر على تجديد الخطاب الديني، فلا شك أن فرج فودة كان قادرًا على أن يسهم فى تجديد الخطاب، والمستشار العشماوي، ونصر حامد أبو زيد؛ والأكيد أن تجديد الخطاب الدينى يحتاج إلى ثقافة دينية متوافرة لدى علماء الأزهر.. لكن علماء الأزهر لم يقوموا بما يجب فى هذا المجال، ونحن رأينا موقفهم من الشيخ على عبد الرازق حينما قال رأيه من الخلافة.


وثيقة أبو ظبي


> إذن.. هل ترى أن الأزهر يسير فى خطواته نحو فكرة التجديد؟


-حينما قرأت ما نشر حول وثيقة أبو ظبى وشارك فى العمل بصورة إيجابية الدكتور أحمد الطيب تفاءلت جدًّا، فهل ننتظر من الدكتور الطيب والذين يعملون معه فى الأزهر تحويل ما جاء فى هذه الوثيقة إلى أفعال وأقوال ونصوص، وكما أننى أعتقد أن وثيقة جمعت بين الإمام الأكبر وهو رئيس أكبر مؤسسة سنية فى العالم وبابا الفاتيكان كانت خطوة مهمة وجديدة للسلام العالمي.


> هل ترى أن هناك عوامل أخرى أسهمت فى انتشار التطرف؟


-هناك الفقر بكل أشكاله ودرجاته، والجهل بكل مستوياته ودرجاته، ونحن لدينا ما يقرب من نصف المصريين لا يقرأون ولا يكتبون، ومن ناحية أخرى فإن الذين يقرأون ويكتبون لا يقرأون ولا يكتبون.. ليس هذا فقط وإنما أستطيع أن أقول إن المؤسسات الثقافية والإعلامية لم تؤد دورها فى تثقيف المصريين.


> هل ترى أننا نعيش حالة من انسداد الأفق الشعرى، بحيث لم يعد فن العرب الأول معبرًا عن واقعهم؟


- الشعر لا يجد مكانه الآن.. والحقيقة أن الأفق ليس مفتوحا أمام الشعر، وبشكل عام فالأفق ليس مفتوحا أمام الفكر، ونحن نمر بمرحلة نحتاج فيها إلى معالجة هذه المشاكل لنرى لماذا لا تستطيع هذه الفنون أن تعيش وتزدهر وتؤدى واجبها.


> ولماذا لم نر خطا شعريا موازيا لثورات الوطن؟


-بالعكس، فقد قرأت لمختلف الشعراء قصائد عن أحداث الثورة، وعندما نتحدث عن عمل مهم ستجد قصائد حسن طلب، وهو شاعر مهم أصدر فى الثورة عدة دواوين، ولكن هذه الأعمال لا تجد من يتلقاها ويرحب بها ويقدمها للناس ويتحاور معها، أى أن هذه الأعمال لا تجد مكانها.. فالشعر موجود ولكن الأفق لا ينفتح أمامه.


> حالة من اللغط على مواقع التواصل انتشرت عقب فوزك مؤخرًا بجائزة شوقي.. ما تعليقك؟


- لن أعلق على هذا.. لأننى مؤمنٌ بحق الآخرين فى التعبير، ولأنى أعتقد أن الوسائل المُتاحة الآن، أى وسائل التواصل، تُوقع فى الخطأ، لأنها تفتح المجال لمن لا يُحسن التعبير، وتفتح مجال الكلام لأصحاب الأغراض، ولكى أدخل فى شيء من هذا فيجب أن يكون من أحاوره كفئًا.


> ولكن هناك من يرى أن جوائز وزارة الثقافة تحتاج إلى تعديلات وتصفيات.. ما رأيك؟


- ما نحتاج إليه هو فتح مجال للحوار حول كل شيء، لأننا بالحوار نُصحح أخطاءنا، ومن المؤكد أن هناك أخطاء تحدث، ولكنها تُعالج بالحوار والمناقشة وتحمل المسئولية.


> كيف ساعدك الاغتراب فى خلق رؤى شعرية مغايرة؟


-الرحيل عندى كان مفيدًا، لأن تجربتى فى أوروبا لم تكن صعبة أو أليمة، بالعكس.. فأنا أحببت الترحال دائمًا، واستفدت منه، واتسعت آفاقي، ووجدت فرصًا متاحة؛ فمن كان يظن أننى أخرج من مصر عام 1974 لأجد الباب مفتوحًا أمامى للعمل فى الجامعة الفرنسية وأستمر فى عملى لتدريس الأدب العربى حتى أواخر 90.


> ولكن كيف ساعد الاغتراب الأول من مركز تلا بالمنوفية إبداعيا فى استيعاب الاغتراب الثانى من مصر إلى باريس؟


-رحيلى من تلا إلى القاهرة وتجربتى هنا، كان صورة أولى مما حدث بعد ذلك.. ولا بد أننى وجدت مواقف صعبة فى كلتا الرحلتين، وجدت صعوبات ولكننى كنت دائمًاحسن الحظ، كما أن الشعر ساعدنى كثيرًا فى تجربتى الأولى والثانية.


> تكتب المقال والنقد بجوار الشعر.. هل لايزال الشعر لسانك الأول؟


- طبعا، لا يزال الشعر هو الأقدر على أن يحمل ما أحس به وما أشعر به وما أتمناه، ولا يزال هو القادر على أن يضع يده على ما لا أستطيع أن أضع يدى عليه بأساليب أو صور أرى من التعبير.. القصيدة تعرفنى بنفسى أكثر من أى عمل آخر.


> تمرد الفتى الذى ناوش العقاد وهجاه قديمًا.. أين هو الآن؟


- هأنتذا تراه الآن، كما كان من قبل.


> إذن، أنت لا تزال تحمل إهابك المشاكس؟


- أنا لست مشاكسًا إلا بما أرفض ما لا أستطيع أن أقبله بصراحة، ولا تبلغ بى المجاملة حد التجاوز فى احترام النفس والتعبير الصريح.. وطبعًا أحاول باستمرار فى كل ما أصنع أن أكون عند حسن الظن من ناحية، وأيضًا أن أكون مع نفسي، ولا أقصد أبدًا الإساءة إلى أحد وأتجنب ما يمكن أن يعتبر إساءة، لكنى لا أستطيع من ناحية أخرى أن أكذب، أو أن تبلغ بى الرغبة فى كسب الآخرين الدرجة التى أخسر بها نفسي.
العقاد 


> بمناسبة ذكر العقاد.. هل يأخذ مكانة لائقة من نفس عبد المعطى حجازي؟


- العقاد رجل عظيم ومثقف حقيقي، وأيضًا واحد من رجالات مصر، وتستطيع أن تجد عندى ما تجده فى شخصية العقاد، وبإمكانك أن تقول إنه كان مُشاكسًا أيضًا، والدليل ما فعله مع شوقى وغيره، بل وما فعله مع جيلنا.. فالعقاد لم يكن رفيقًا بأحدٍ.


> وهل كنت أنت رفيقًا بأحد حين توليت مكانه رئيسًا للجنة الشعر ورفضت قصيدة النثر، مثلما رفض هو قديمًا شعرك فى التفعيلة؟


- كنتُ أنا مكان العقاد العظيم، ورفضت قصيدة النثر، فهل استطاع أحد شعراء النثر أن يكون فى مكانى ويكتب فى قصيدة هجاء مثلما كتبتُ فى العقاد!!


> الشعر مرتبط بالمرأة بطريقة ما.. ألا تزال المرأة تحفظ مكانها فى كيانك الشعري؟


- المرأة موجودة فى شعرى بالطبع، ومكانها ملحوظ، لكننى أكتب عن المرأة ضمن تجارب أوسع، أى أن القصيدة تتسع للمرأة كما تتسع لأشياء أخرى، بالإضافة إلى قصائد خاصة بالمرأة؛ ولكننى أستطيع الاعتراف بأن المرأة لم تأخذ حقها فى شعري.


> بعض النقاد يقولون إن لديك شعرًا ثائرًا قلقًا.. ما صحة ذلك؟


- الشعر يتسع لكل شيء، وبالتالى يستطيع الناقد أن يرى ما لا يراه الآخرون، بإمكانه أن يقول حتى أشياء لم أنتبه أنا إليها من قبل.


> على ذكر النقد.. هل ترى أنه يعيش الآن أفضل حالاته؟


- بالطبع لا، فلدينا مشاكل كثيرة.. والنقد الآن إما أنه نظرى أو صحفي؛ والتقد الذى هو تحليل وأخذ بيد القارئ ليدخل عالم القصيدة ويتعرَّف على عالمها، ويتذوقها، ويُحبها، ويعرف كيف نظم الشاعر قصيدته، ولماذا تفرد بلغة ليست لغيره، هذا العالم الذى يتطلب ثقافة واسعة فى لغة الشعر وفى أدواته.. هذا النقد قليل.. وأعتقد أن الشاعر مُعرَّضٌ أحيانًا لأن يجد نفسه محتاجًا إلى شيء واعيًا لهذا الشيء، ومع هذا يجد أن شيئًا آخر غير واعٍ له يفرض نفسه عليه؛ فالشاعر يبحث عن نفسه، ولا يصح أبدًا أن نعتبر إنجاز الشاعر نهاية ما يستطيع أن يُقدمه؛ وأيضًا طريقة التلقى تُسهم فى الكشف.

عبد الهادي عباس