ورقة وقلم

ياسر رزق يكتب: 5 سنوات مع رجل الأقدار

ياسر رزق
ياسر رزق

نسمات منعشة، أتت خجلى، تجفف قطرات عرق سالت على الوجوه في تلك الأمسية الحارة، وتهدئ من وتيرة خفقان قلوب اضطربت بالمشاعر، في ذلك اليوم المفصلي من تاريخ مصر الحديث.

كنت واحداً من ألف مدعو من المصريين والعرب والأجانب، إلى تلك الأمسية قبل خمس سنوات مضت، جلسنا في حديقة قصر القبة الجمهوري التي تحيط بها الأشجار النادرة، نتابع الاحتفال التاريخي بمراسم تسلم الرئيس المنتخب عبدالفتاح السيسي، السلطة من الرئيس المؤقت عدلي منصور، بعد ساعات من أداء الرئيس الجديد اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا.

كانت الموسيقى تصدح بنغمات الأناشيد الوطنية تتردد في جنبات المكان الذي أضفت عليه الأضواء المسلطة على مبنى القصر وظلاله التي افترشت حشائش الحديقة، مهابة فوق بهاء.

جلس السيسي ومنصور يوقعان وثيقة التسليم والتسلم غير المسبوقة في تاريخ مصر القديم والحديث والمعاصر، بينما رجع صدى نشيد «قوم يا مصري» يدوى في السماء، يبث في صدور الحضور وملايين الشهود أمام شاشات التليفزيون، بهجة وأملاً، ويستنهض في النفوس همما وعزائم.

< < <

يومئذ بدا للجميع أنها الخاتمة المنشودة لسلسلة من الأحداث الصعبة، أو هى النهاية السعيدة لأيام شاقة، أضنانا فيها الكفاح وأضنتنا الأحلام.

لكن..

الحقيقة التي ألمسها بيدي الآن، وبعد مضي ستين شهراً على تلك الأمسية الرائعة، أنها لم تكن هى النهاية، ولا حتى بداية النهاية، بل كانت نهاية البداية لحقبة عسيرة عشناها على أطراف أنامل أعصابنا ووجداننا وأذهاننا، بدأت في الخامس والعشرين من يناير 2011، وكانت ذروتها في الثالث من يوليو 2013، وحان ختامها في الثامن من يونيو 2014.

< < <

في تلك الأمسية التاريخية، وجدت أمواج الذكريات، تجرفني إلى الوراء، في غمرة سعادة تتلاطم أحاسيسها في صدري وتعربد، وأخذت مشاهد عديدة لي مع رجل الأقدار تتقافز في رأسي، وتتري.

لقاءات خاصة، وأخرى محدودة وعامة.

أحاديث ومكالمات، بعضها من أجل الصحافة، ومعظمها لن ترى الصحف إليه سبيلا.

ورست بي الذكريات، عند مشهد جمعني مع بعض زملاء في مطلع عام 2012، قبيل فتح باب الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية، عندما طرح أحدنا على الآخرين، سؤالاً يطلب أن يسمع إجابته من كل واحد منهم: من الشخصية الأصلح لرئاسة مصر؟!

عندما جاء دوري، قلت الاسم ثلاثياً مجرداً من ألقاب: عبدالفتاح سعيد السيسي.

وكان لهذا الاختيار حيثيات عندي اكتشفتها وتوصلت إليها منذ لقائي الأول مع رجل الأقدار.

أذكر أن الدهشة استبدت بالجميع. فالغالبية لا تعرف صاحب الاسم ولم تسمع به من قبل. والقلة سمعت عنه بحكم عملها، بينما واحد فقط غيري كان يعرف صاحب الاسم والتقى معه. ووجدته يصدق على كلامي دون تردد، ويقول: نعم. اتفق معك أنه الأصلح، ولكن كيف له السبيل؟.. انه مدير المخابرات الحربية، وأغلبية الناس، لا تعرف مجرد اسمه!

رددت قائلاً: هذا إحساسي!

لم تكن تلك نبوءة لي، وإنما كانت حلماً.

ولحسن حظي، عشت لحظة تحقق الحلم.

< < <

الآن، أجلس لأكتب في ذكرى خمس سنوات مضت تحت رئاسة رجل الأقدار.

أعود بالذاكرة إلى اليوم الأول له في قصر الاتحادية، ولا أمنع نفسي من المقارنة بين حالنا يومئذ، وحالنا اليوم.

لا أظن أحداً على أرض مصر وفي خارجها -باستثناء الرئيس- كانت أحلامه تحلق به بعيداً إلى حيث الأرض التي يقف عليها واقعنا اليوم.

منتهى الأمل، كان إنقاذ الدولة المصرية، كان إعادة الثبات إلى بعض دعائمها، والصلابة إلى بعض مفاصلها.

منتهى الأمل، كان استرداد الأمان في الشارع المصري، والأمن على الثغور والحدود، وتحجيم خطر الإرهاب في قلب الوادي وسيناء.

منتهى الأمل، كان إدارة عجلة اقتصاد توقفت، بل استدارت إلى الوراء، وشارفت على الانهيار بكل مقومات الإنتاج ومجالاته.

منتهى الأمل، كان فتح صفحة جديدة مع الوطن بعد عقود الركود العظيم في عهد مبارك، وعام الخراب في عهد الإخوان.

منذ خمس سنوات مضت، كنا نشفق على أنفسنا وعلى الرئيس من طموحاتنا غير المسقوفة. كنا نلقي عليه باللوم في تطلعاتنا التي تناطح السحاب، فهو الذي كان يردد دائماً: إن مصر ستبقى «قد الدنيا»، وكان يراهننا على المستقبل قائلاً: بكره تشوفوا.

لم يمتلك السيسي عصا موسى ولا خاتم سليمان ولا مصباح علاء الدين، لتحقيق أحلام وتطلعات الشعب المصري، ولتنفيذ طموحاته هو لبلاده ورؤاه للنهوض بها وأفكاره لكي تتبوأ مكانتها التي تستحق بين صدارة الأمم.

لكن السيسي كان يمتلك ما لا يقل سحراً عن تلك الأدوات، وهو عزيمة المصريين الصلبة وهمتهم العالية وإرادتهم التي لا يغلبها بشر.

< < <

في غضون أقل من خمس سنوات، استعادت مصر عضويتها التي تعرضت للتجميد في الاتحاد الأفريقي، واسترجعت دورها التاريخي كصوت يتحدث بكل الوضوح والحسم باسم أفريقيا في المحافل الدولية، واختارها الأفارقة لتترأس الاتحاد الأفريقي في دورته الحالية، ويشارك رئيسها عبدالفتاح السيسي في المحافل والمنتديات العالمية متحدثا باسم أفريقيا.

استردت مصر مكانتها في أمتها العربية وحملت على عاتقها مسئولية الدفاع عن الدولة الوطنية في العالم العربي وعن الجيوش الوطنية في كل بلد عربي، وترأست الجامعة العربية منذ 4 سنوات واستضافت مؤتمر القمة عام 2015 في شرم الشيخ. وأقامت مصر لأول مرة علاقات شراكة إستراتيجية وثيقة مع القوى العظمى والكبرى في عالمنا من الولايات المتحدة إلى روسيا إلى الصين إلى شرق آسيا إلى أقطاب أوروبا.

< < <

على أرض مصر لم يكن الإنجاز مجرد رفع معدلات النمو إلى 5.5٪، وخفض معدلات البطالة والتضخم، بعد تنفيذ خطة إصلاح اقتصادي ونقدي غير مسبوقة، تحمل المصريون أعباءها بصلابة وإيمان بإخلاص قيادتهم وسلامة رؤيتها لمتطلبات الحاضر وضرورات المستقبل.

لم يكن الانجاز فقط شق قناة السويس الثانية بطول 70 كيلومتراً، في عام واحد فقط، بعدما كانت التقديرات تشير إلى أن الحفر لن يستغرق أقل من خمس سنوات، لنحتفل هذا العام على مشهد من العالم بمرور 150 سنة على حفر قناة السويس التي صارت قناتين للاتجاهين.

لم يكن الانجاز أيضاً هو إنشاء وتطوير 8 آلاف كيلومتر من الطرق في أرجاء مصر، ولا عشرات الكباري في الوادي والصعيد والعاصمة، ولا أنفاق قناة السويس التي تربط سيناء بشمال الإسماعيلية، وتربطها بجنوب بورسعيد.

لم يكن الإنجاز فقط هو إنشاء محطات الكهرباء العملاقة في البرلس وبني سويف والعاصمة الجديدة، والحمراوين بالقصير وعيون موسى ومحطات الطاقة الجديدة في بنبان بأسوان ومحطات الضخ والتخزين الجديدة.

لم يكن الإنجاز فقط هو اكتشاف حقل «ظهر» الأكبر في البحر المتوسط لإنتاج الغاز ولا في الاكتشافات الغازية والبترولية الأخرى.

ولا الموانئ الجديدة في شرق بورسعيد وسيناء، ولا المطارات الجديدة في القطامية وغرب الجيزة والمليز بسيناء.

لم يكن الإنجاز فقط هو تدشين مشروع استصلاح 1.5 مليون فدان، بجانب مليون فدان أخرى من الصوب الزراعية، في إطار المشروع العملاق لاستصلاح 4 ملايين فدان تمثل قرابة نصف المساحة المنزرعة على أرض مصر.

ولم يكن فقط، إنشاء 14 مدينة جديدة في سيناء وساحل المتوسط من سلام بورسعيد إلى المنصورة الجديدة ورشيد الجديدة والعلمين الجديدة وحتى رأس الحكمة، وفي صعيد مصر من شماله وحتى توشكى الجديدة.


ولم يكن الإنجاز هو إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة التي ستنتقل إليها في العام المقبل، وزارات الحكومة، ومقار البرلمان، ومؤسسات القضاء العليا، ومقار القوات المسلحة وأجهزة الدولة الأمنية وهيئاتها ومؤسساتها.

ولم يكن الإنجاز هو إنشاء مليون وحدة سكنية، غالبيتها من وحدات الإسكان الاجتماعي التي أقيمت في منظومة تجمعات عمرانية تضم الحدائق والملاعب والمجمعات التجارية والخدمات والمستشفيات.

ولم يكن الإنجاز هو إنشاء وتطوير عشرات المستشفيات وعلاج أكثر من مليوني مصري من فيروس سي وإطلاق مبادرة «100 مليون صحة» لاكتشاف الأمراض السارية كالضغط والسكر والقلب وغيرها وعلاج المواطنين مبكراً وكذلك إطلاق مبادرة علاج أصحاب الأبصار الضعيفة والأطفال مرضى ضعف السمع الشديد ممن يحتاجون إلى زراعة قواقع.

ولم يكن الإنجاز هو اقتحام ملف تطوير التعليم بجسارة وقوة لإصلاح المنظومة التعليمية بكل مشتملاتها والوصول بها إلى مصاف الدول ذات الصدارة في المستوى التعليمي.

.. لم يكن الإنجاز فقط هو بناء وتشييد كل هذه المشروعات العملاقة وغيرها الكثير، بمعدلات قياسية غير مسبوقة، سواء بأقل تكلفة، أو بأجود مواصفات، أو بأسرع وقت.

< < <

الإنجاز الأم والأهم لرجل الأقدار مع شعب مصر، هو إنقاذ الدولة وتثبيت دعائمها ورفع قواعدها وتمتين بنيانها، هو دحر الإرهاب في الوادي وهزيمة ميليشياته في سيناء ومحاصرة جيوبه وتطويق فلوله، هو بناء الجيش المصري وتحديث بحريته وطيرانه ودفاعه الجوي وقواته البرية، وتطويره تسليحا وتدريبا وتأهيلا ورفع استعداده القتالي ليكون بحق واحداً من أقوى عشرة جيوش في العالم.

الإنجاز الأهم أن مصر استطاعت أن تعطل مؤامرات وتوقف مخططات، وأن تنهض في قلب عالمها العربي المريض، متعافية قادرة على الدفاع عن نفسها ومساندة شقيقاتها غرباً وجنوباً وشرقاً.

لولا ذلك الإنجاز، ما كان لأي مشروع أو عمران، جدوى، ولا كان لأي مكتسب في أي مجال، استمرار أو بقاء.

< < <

منذ أيام.. كنت وزملاء لي على مائدة سحور مع صحفيين كبار من أعضاء مجلس اتحاد الصحفيين العرب، وكانوا شغوفين بالحديث عن مصر وقائدها وما جرى على أرضها.

وقال أحدهم إن غير الظاهر في كل هذه المشروعات التي نعلم عنها ونتابعها، الانحياز إلى الطبقات الدنيا، والاهتمام بالبعد الاجتماعي.

ورددت عليه مشيراً إلى إنشاء وحدات سكنية لائقة مجهزة مجاناً بالأثاث والأجهزة والمفروشات لمليون مواطن من أبناء الأسر التي تقطن العشوائيات الخطرة وعددها حوالي 180 ألف أسرة تقيم في عشش من صفيح وأكواخ أنشئت تحت الصخور القابلة للسقوط أو على حواف مرتفعات آيلة للانهيار.

وتحدثت عن مشروعات علاج مرضى فيروس سي من أبناء الأسر المتوسطة والفقيرة بل والميسورة التي لا تستطيع تحمل فواتير العلاج، وكذلك معاشات تكافل وكرامة للملايين من أبناء الأسر معدومة الدخل.

وتحدث زميل عربي آخر متسائلاً: عن التصنيع، ورددت عليه موضحاً أن كل ما أنشىء من بنية أساسية كالطرق والموانئ والمطارات وما جرى توفيره من طاقة كالغاز والكهرباء وما تم سنه وإصداره من تشريعات لتيسير إجراءات الاستثمار، الهدف منه هو توفير قاعدة حقيقية لجذب الاستثمارات إلى الصناعة والإنتاج الزراعي، فالتصنيع كما يؤمن الرئيس ويعرف خبراء الاقتصاد هو بوابة مصر لدخول نادي الدول الكبرى.

وتحدثت أيضا عن القطاع العام الجديد الذي نهض على أكتاف القوات المسلحة سواء في مجال مواد البناء كالأسمنت وحديد التسليح والأسمدة والرخام أو في مجالات أخرى في وادي النيل وسيناء.

وأذكر أن الزملاء العرب بعد أن استمعوا لي ولغيري، قالوا لنا: هذه المعلومات خاصة في مجال العدالة الاجتماعية أو التصنيع، نسمعها لأول مرة، ونظن أن الحديث عنها وتداولها مسألة أساسية لنا بقدر ما هى لكم.

< < <

ربما يرى البعض أنه كان بالإمكان أن نحقق اختراقاً أوسع في مجال ما خلال السنوات الخمس الماضية، لكن هؤلاء بإمعان النظر وبإنصاف التفكير، لابد أن يجدوا أن ذلك الاختراق المنشود كان لا يمكن أن يتحقق إلا على حساب تقدم في مجال آخر لا يمكننا الاستغناء عنه أو تخطيه في سلم الأولويات.

لكننا على الأقل بعد مضي 5 سنوات مع رجل الأقدار الذي ساقه إلينا القدر في الوقت الذي هيأته المقادير، لم نعد ننظر إلى الوراء بغضب ولا إلى الأمام بخوف أو قلق.