صور| «كل الطعام لله» بالسيدة نفيسة.. موائد الرحمن حكاية مصرية أصيلة

مائدة الرحمن بالسيدة نفيسة
مائدة الرحمن بالسيدة نفيسة

- تسميتها تعود لمائدة سيدنا عيسى.. و«الرحمن» تدل على الرحمة والتكافل الإسلامي

- «بن طولون» أول من دعا لها.. و«المعز» أول من أسس دار الفُطرة «سماط الخليفة»

- «فاروق» كان يجهز مأدبة هائلة بقصر عابدين.. و«عبدالناصر» أعادها بعد طول غياب

- «دراسة»: 3 مليون يوميا بالموائد.. والقاهرة تتكلف مليار جنيه.. والمنظمون 10 آلاف جهة

- المغتربون أكثر روادها.. والطلاب يعوضون «لمة العيلة».. والموائد رحمة للفقراء والأغنياء

 

على مائدة الرحمن بالسيدة نفيسة «َيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا».. هنا في رحاب نفيسة العلم حفيدة رسول الله؛ اجتمع الفقراء والمساكين والطلاب وعابري السبيل والمغتربون ومن لم يسعهم الوقت للإفطار في بيوتهم ومحبي روحانيات الشهر الفضيل وسط «اللمة» وآخرين كُثر؛ لتناول الإفطار في أجواء يسودها الكرم والجود والترابط الاجتماعي والتكافل الإسلامي.

فمنذ مئات السنين استمرت موائد الرحمن تراث مصري وطقوس يتوارثها المصريون عبر الأجيال في الشهر الكريم، إذ لا تقدم الطعام فقط، بل هذا الجو الرمضاني الذي يسوده الروحانيات يشكّل مناخاً طيباً لنشر المودة والمحبة والرحمة بين الناس، ما جعلها تجتذب السائحين الأجانب لتناول الطعام مع الصائمين، للاستمتاع بهذا الجو الفريد الذي يعكس أسمى معاني الإخاء.

 

سبب التسمية

وجاءت تسمية الموائد بـ«الرحمن» من سورة المائدة، حيث أنزل الله على سيدنا عيسى بن مريم – عليه السلام- مائدة طعام من السماء لتكون آية للعالمين، كذا فإن اسم «الرحمن» يحثّ على التراحم والمودة بين المسلمين بتلك الموائد.

 

 

تاريخ موائد الرحمن

تقول الروايات التاريخية إن أول مَنْ أقام مائدة الرحمن في مصر هو الأمير أحمد بن طولون في السنة الرابعة لولايته، حين جمع القادة والوزراء والتجار والأعيان على مائدة حافلة في أول أيام رمضان، وخطب فيهم: «إنني لم أجمعكم حول هذه الأسمطة إلا لأعلمكم طريق البر بالناس، وأنا أعلم أنكم لستم في حاجة إلى ما أعدّه لكم من طعام وشراب، ولكنني وجدتكم قد أغفلتم ما أحببت أن تفهموه من واجب البر عليكم في رمضان، ولذلك فإنني آمركم أن تفتحوا بيوتكم، وتمدّوا موائدكم، ليأكل الفقير المحروم».

بينما تذهب روايات أخرى، إلى أن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي كان أول مَنْ أقام مائدة في شهر رمضان يفطر عليها أهل جامع عمرو بن العاص، وهو مَنْ وضع تقليد الإكثار من المآدب الخيرية في عهد الدولة الفاطمية، وكانت الموائد تُعدّ في عهد الفاطميين تحت اسم «دار الفطرة».

وكان الحكام وكبار رجال الدولة فى عهد الفاطميين يطلقون على مائدة الرحمن «سماط الخليفة»، فيما يوفر القائمون على قصر الخليفة الفاطمى مخزوناً كبيراً من السكر والدقيق لصناعة حلوى رمضان، مثل الكنافة والقطايف وغيرها.

وكانت «دار الفطرة» تعد الكعك وما شابه لتوزيعه فى رمضان والعيد، وتعد بالقناطير لتوزع على جموع المصريين فى القاهرة، وكانت القاهرة فى ذلك الوقت مدينة خاصة للخليفة وخاصته وفرق الجيش.

كما كان الخليفة الفاطمى يحضر السماط الرسمي بنفسه، فى قاعة الذهب بالقصر الشرقي الكبير فى ليالى رمضان، وفى العيدين والمولد النبوى وخمسة موالد، وهى مولد سيدنا الحسين والسيدة فاطمة والإمام علي والحسن والإمام الحاضر، بالإضافة إلى سماط الحزن فى يوم عاشوراء.

وقبل ثورة 1952، كانت موائد الرحمن في وسط البلد حكرًا على الملك فاروق، الذي كان يقيم مأدبة هائلة في ساحة قصرعابدين يفتتحها بنفسه يوميًا مع أشهر قراء القرآن الكريم، ويستضيف فيها كبار المسؤولين بالقصر والوزراء ونجوم المجتمع من الباشاوات وأيضًا الفقراء وأبناء السبيل، وفي عام ١٩٦٧ أعاد بنك ناصر إحياء موائد الرحمن بإقامتها من أموال الزكاة بعد غيابها لسنوات.

وقد تطوّرت مائدة الرحمن في العصر الحديث لتتواكب مع متغيّرات العصر، وتحوّلت من مائدة يوضع عليها الطعام ويأتي إليها الصائمون لتناوله، إلى وجبات تُعدّ وتُرسل إلى الفقراء في البيوت، أو تُوزع على المستشفيات ودور الأيتام والمسنين، وأيضاً تُقدّم للمارة في الشوارع في وقت الإفطار.

 

 

مائدة السيدة نفيسة

فور مرورك أمام المائدة يجذبك القائمين عليها للجلوس على مقاعد عديدة رُصت بانتظام بجوار بعضها البعض، ووضعت أمامها صنوف الطعام الشهي والمياه والعصائر، لتجلس على مائدة الرحمن المخصصة للرجال، والتي تبعد عن مائدة السيدات بضع خطوات واللاتي جئن بصحبة أطفالهن.

تلحظ عيناك مجموعات من الشباب يبدو عليهم أنهم يدرسون بالأزهر، كما ترى مجموعات آخرى يبدو وكأنهم عمال مغتربين من الأقاليم جاءوا إلى القاهرة بحثا عن عمل وأرداو إحياء أجواء رمضان في المائدة بعدما افتقدوا «لمة العيلة» في قراهم، كما تشاهد مجموعات من الطلاب الوافدين من الدول الإفريقية والإسلامية للدراسة في الأزهر الشريف على المائدة، وغيرهم من محبي آل البيت والدراويش والصوفيين، وكذا كبار السن والمتسولين وبعض سكان المناطق العشوائية والفقراء والمحتاجين.

الأحاديث والتعارف وأجواء الألفة والمرح تسود المائدة أيضا، كما تسود مائدة السيدات أجواء السرور والتقاط «صور السيلفي» وبهجة بأيام شهر رمضان.

يقول علي محمد، عامل في المقاولات، من سوهاج، إن اللمة وسط العائلة هي أكثر ما يفتقده المغتربون، مضيفا: «الروح اللي بتبقى مع الأهل بتفرق، دي أكتر حاجة بتأثر في الواحد».

أما سعيد سيد، عامل، من أسيوط، يملك من الفصاحة ما جعله يقول: «الموائد هى ملاذ وملجأ لنا فى رمضان لأن أرزقية نعمل بالنهار ولا يوجد لدينا وقت كافي لتجهيز الإفطار فنلجأ لموائد الرحمن، كذلك ارتفاع تكلفة أكل المطاعم يجعل الموائد قِبلة المغتربين في رمضان».

والتقط منه طرف الحديث الحاج أحمد أيوب، 54 عاما، من القاهرة، قائلا: «منذ 8 أعوام وأنا أحرص على الإفطار على المائدة، بعدما توفيت زوجتي، وتزوجت بناتي، فلا يوجد من يجهز الإفطار لي، فأجد على مائدة السيدة نفيسة أجواء العائلة والمودة».

إلى جانب مائدتي الرجال والسيدات، اصطف الصائمون أمام مسجد السيدة نفيسة، حيث توزع عليهم وجبات جاهزة مغلفة يستلمونها فيعودون بها لبيوتهم، أو يتناولونها في مجموعات أسرية في محيط المسجد وساحاته المجاورة، كما تأتي سيارات بين الحين والآخر توزع وجبات وتنصرف ويزدحم عليها المحتاجون للظفر بوجبة.  

 

3 مليون صائم يوميا بالموائد

وأفادت دراسة أجرتها جامعة الأزهر، أن موائد الرحمن في القاهرة وحدها تتكلف ما يزيد على مليار جنيه، وهذا يساوي ما تنفقه المحافظات الأخرى مجتمعة على تلك الموائد في شهر رمضان.

وأشارت الدراسة إلى أن عدد المواطنين الذين يستفيدون من موائد الرحمن يبلغ ثلاثة ملايين شخص يومياً، مع العلم بأن الجهات أو الأشخاص الذين يقومون على تنظيم تلك الموائد يصل إلى عشرة آلاف جهة أو طرف.