حكايات| عبدالباسط عبدالصمد.. «الشيخ براندو» معبود النساء

الشيخ الراحل عبدالباسط عبدالصمد
الشيخ الراحل عبدالباسط عبدالصمد

الكاتب الصحفي الكبير أحمد رجب، كان ذكيا وصيادا ماهرا للقصص الصحفية المثيرة، قلمه إن قرر طبع الحبر على الورق، فمعناه أن الجميع أمام لقطة صحفية ستكون حديث الشارع لأيام إن لم تكن لشهور.

 

«رجب»، الذي تخرج في مدرسة العبقريان علي ومصطفى أمين، بدرجة امتياز، كان على موعد في يوم من الأيام مع قصة طريفة لمقرئ أقل ما يقال عنه إنه غير الصورة النمطية للمشايخ، فبخلاف أنه أصبح أشهر قراء القرآن الكريم في مصر والعالم العربي والإسلامي بل والعالم أجمع، لدرجة أنه لُقب بـ«الحنجرة الذهبية وصوت مكة»، إلا أنه كان أيضا وسيما جميل الهيئة والطلة، ويحرص على ارتداء أفخر أنواع الثياب، ويضع أرقى العطور، ويقتني السيارات الفارهة، ساعيا من وراء ذلك إلى تغيير الفكرة المأخوذة عن القراء من عدم الاهتمام بمظهرهم، وكان يرى أن قارئ القرآن يجب أن يهتم بمظهره أكثر من أي شخص آخر، لدرجة أنه ثارت حوله شائعات وكأنه «معبود نساء الشرق».

 

الشيخ عبد الباسط «براندوا»

 

البداية، جاءت مع طرق أحد العاملين بقسم الإعلانات في مؤسسة أخبار اليوم، الباب على الكاتب الكبير أحمد رجب، يخبره، أن لديه «قصة حلوة ينفع ينشرها»، وقام العامل بإخراج صورة لأحد أقاربه، وقال لـ«رجب»: «هذا الرجل يعمل مقرئا وهناك سيدة سورية تحبه وتطارده أينما ذهب».

 

القصة أعجبت الكاتب الكبير أحمد رجب، وقام بالفعل بنشرها وأطلق على المقرئ الشاب – في حينها - لقب «الشيخ براندوا» نسبة إلى الشبه الكبير بين صورة المقرئ والممثل العالمي «مالون براندوا»، ليرتفع بعد ذلك سعر المقرئ الذي زاد حجم شهرته بعد تلك القصة، وارتفع أجره من 30 جنيها إلى 300 جنيه، وصار واحدا من علامات قراءة القرآن الكريم.. إنه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد.

 


عبدالباسط والسيدة السورية

 

«عبد الباسط عبد الصمد»، بخلاف أنه كان لحنا من ألحان السماء، يمتلك موسيقى إلهية وهبها الخالق لصوته لتطرب الأرواح وتحملها إلى أعلى أماكن الجمال والنور الإلهي، صاحب صوت صداح جميل، يحمل القرءان بعذب القراءة إلى الأسماع والأفئدة، حتى غدا أحد أولئك النفر من القراء الذين بلغت شهرتهم عنان السماء، وتربع على عرش القراءة والتلاوة، ليس هذا فحسب بل تربع على عرش قلوب كل من استمع إليه، حتى صار له عشاق من مختلف أنحاء العالم، فأصبح قبلة للمعجبين من كل حدب وصوب.

 

 

والقصة التي نشرها أحمد رجب خير مثال على ذلك، فرغم أنها استمرت لعدة حلقات على صفحات أخبار اليوم، إلى أن جاء قرار بوقفها من الزعيم جمال عبد الناصر، وبرغم ما أثير حولها من شائعات كأنه خطف سيدة سورية من زوجها وهرب بها لمصر كي يتزوجها، إلا أن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يحكيها بنفسه في حوار أجراه مع مجلة «أهل الفن» في عددها رقم 78، سبتمبر1955.

 

يقول الشيخ عبدالباسط عن تلك الواقعة إنه «أعد بيانًا خاصًا سيلقيه على الناس لمن شاء أن يعلم.. إن زوج هذه السيدة، تَعرّف عليه ورجاه أن يعمل على إلحاق زوجته، بمحطة الإذاعة المصرية، لأنها تهوى الموسيقى والغناء، وكان يحسب أنه يستطيع إسداء معروف إليها، ليرد للسوريين بعض ما يدين لهم به من كرم وود، غير أن زوجته، السيدة السورية، تعجلت وجاءت إلى مصر، وقصدت منزله الذي يقيم فيه مع زوجته وأولاده الخمسة ووالدته وأحد إخوانه، وسألته عما تم في أمرها، وكان قد عَلمُ أنه لن يستطيع أن يلحقها بالإذاعة، فكاشفها بحقيقة الأمر، وكلفها بالعودة إلى بلدها».

 

 

إلا أن الشيخ عبدالباسط، فوجئ بإعلانها رغبتها في الزواج منه، وأخبرته بأنها طُلقت من زوجها، وإنها لا تستطيع العودة إلى سوريا.. فهاله الأمر وعرضه في الحال على بعض المسئولين في مصر، كما اتصل ببعض موظفي الجوازات ليعملوا من جانبهم على عودتها إلى سوريا، فأخذت هي تتصل ببعض الأوساط، واستغل بعض الحاقدين هذه الفرصة لينالوا من كرامته وسمعته، ولكن قدرة الله حفظته.

 

الحنجرة الذهبية عبد الباسط عبدالصمد، يضيف في حواره للمجلة: «أنه كتب هذا البيان لينشره على الناس في سوريا، لكي يطلعوا على القصة كاملة، بعد أن انتشر هناك أنه خطف السيدة من زوجها، وأنه حاول بعد ذلك أن يُصلح بينها وبين زوجها المدرس بدمشق، فلم يستطع، وهو لا يعرف عنها شيئا».

 

 

وأوضح الشيخ عبد الباسط، للمجلة، أن حكاية غضب زوجته وتركها للبيت، لا تخرج عن إشاعة أطلقها المغرضون، وأن زوجته موجودة في المنزل، وقال الشيخ: «إن زوجته وأولادها، لم يخرجوا من البيت منذ 6 أشهر، ولا يذهبون إلى السينما أبدًا، وأنه لا يزوج بناته من أي إنسان غريب عن أسرته».

 

البداية الحقيقة

 

القارئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الذي ولد عام 1927 بقرية المراعزة التابعة لمدينة ومركز أرمنت بمحافظة قنا بجنوب الصعيد، عشق القرآن منذ صغره، وحفظه وهو ابن 10 سنوات، وسعى لتعلم قراءة القرآن بأصوله، إذ كان موهوبا، ويتمتع بالذكاء وحلاوة الصوت منذ صغر سنه، وربما بدايته الحقيقة كانت في عام ١٩٥٠م، حينما توجه نحو مسجد «السيدة زينب»، للاستماع إلى عمالقة القراءة آنذاك مثل الشيخ الشعشاعى، والشيخ عبدالعظيم زاهر.

 

 

وما إن خلع عبدالباسط نعليه ودخل المسجد، استمر القراء الكبار في تلاوتهم حتى أدركهم التعب جميعًا خلال الليلة الختامية للمولد، ولعبت الصدفة دورها، إذ كانت تربط إمام مسجد السيدة زينب الشيخ على سبيع، علاقة صداقة قديمة بوالد الشيخ عبدالباسط، واستغل تلك الصداقة، فطلب من الشيخ «سبيع» سماع صوت ابنه، وبدأ بالفعل في القراءة فإذا بالمسجد يمتلئ لحظة بعد أخرى، يرغب في الوقوف ليستأنف الشيوخ الكبار تلاوتهم، فيشيرون له بالاستمرار، حتى استمر قارئا حتى مطلع الفجر.

 

ومن تلك الليلة، التحق الشيخ عبدالباسط بالإذاعة ونال شهرة واسعة وانهالت عليه دعوات الزيارة من ملوك وأمراء الدول العربية، وكانت أول زيارة له خارج القطر المصري إلى السعودية، وظلت من أكثر الدول التي زارها في حياته، وأحبهم إلى قلبه، كما سافر إلى كل الدول العربية، ومعظم دول قارتي آسيا وأوروبا مثل الهند، وباكستان، وماليزيا، وفرنسا.

 

 
عبدالباسط وأم كلثوم

 

وفيما روي عن «الشيخ عبد الباسط» أنه كان يعشق موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، لاسيما أغنيته: «فايت على بيت الحبايب»، وكان يرى أن عبدالحليم «مش بطال»، وأن «أم كلثوم» معجزة لن يجود بها الزمان مرة أخرى، فهي في الطرب معجزة كما هو محمد رفعت في التلاوة، فيهما سحر من عند الله، ويسحره أداء فاتن حمامة ويوسف وهبي. وكشف الكاتب الصحفي محمود السعدني في كتابه «ألحان السماء» أن «الشيخ عبد الباسط» كان يرد على خطابات معجباته بـ «خطابات بنفسجية اللون»، وكان يرفق معها صورة له ممهورة باسمه.

 

 

الغائب الحاضر

 

الفصل الأخير لحياة الشيخ عبد الباسط عبدالصمد، طوي يوم الأربعاء 30 نوفمبر من عام 1988م، وكانت جنازته وطنية ورسمية على المستويين المحلي والعالمي، فحضر تشييع الجنازة كثير من سفراء دول العالم نيابة عن شعوبهم وملوك ورؤساء دولهم؛ تقديرا لدوره في مجال الدعوة بكافة أشكالها، ولكنه فتح فصل جديد لن يطوى حتى نهاية الزمان، إذ حجز كرسي التفوق لجمال صوته وقدرته في تصوير الآيات القرآنية بشكل دقيق، وتمكّنه من جميع القراءات بشكل لا يجارى، ومازال صوته حاضرا بيننا حتى الآن، وسيظل.