حكايات| نوادر الشيخ «المنشاوي».. رفض دعوة «ناصر» واستهدفه «الحاقدون» بالسم

الشيخ المنشاوي ومعجبيه
الشيخ المنشاوي ومعجبيه

ولد من رحم الخشوع، وتربى بين أحضان التضرع والسكينة، وخرج من بيت كان القرآن حاضرا فيه منذ الجدود ليلتصق بمنزلهم لقلب «فرسان القرآن»، فأصبح رئيس جمهورية التلاوة بلا منافس أو منازع، اقتحم القلوب وأخذ موضعا فيها بصوته الشجي، وكان له نصيبا من لمس روح كل من سمعه وأنصت إليه.. إنه الصوت الباكي وريحانة القلوب الشيخ محمد صديق المنشاوي.

وربما ما لا يعلمه الكثيرون أن مزمار القرآن «المنشاوي»، الذي تربع على قلوب محبيه، ويُعد من أسرة عريقة في تلاوة وتجويد القرآن الكريم، لتخرج لنا واحدا من كبار القراء في مصر والعالم العربي، وكأنه ورث حلاوة صوته، وأصالة تلاوته للقرآن من «سلسال» أسرته، التي عُرف عنها الخشوع في التلاوة، الذي اكتسب سمة الحزن والخشوع والوقار، بل كساه زهدا في المال؛ ذلك أنه لم يؤثر عنه أنه طلب أجرا نظير تلاوته القرآن، إنه في ظل شهرته ونبوغه المبكر دفع البعض لنصب حبال «الحقد والغل» غيرةً من حلاوة صوته، حتى من أقرانه من قارئي القرءان الكريم.

 

دس السم بطعامه

وصل الأمر ببعض الحاقدين أن يدس له السم في الطعام، ويروي الشيخ محمد صديق المنشاوي، عن تلك الواقعة - والتي قصّها على والده وأبنائه - فيقول: «إنه كان مدعو في إحدى السهرات عام 1963م، وبعد الانتهاء من السهرة دعاه صاحبها لتناول الطعام مع أهل بيته على سبيل البركة، ولكنه رفض فأرسل صاحب الدعوة إليه بعضا من أهله يلحون عليه فوافق، وقبل أن يبدأ في تناول ما قدم إليه من طعام، أقترب منه الطباخ وهو يرتجف من شدة الخوف، وهمس في إذنه قائلا: يا شيخ محمد، سأطلعك على أمر خطير وأرجو ألا تفضح أمري فينقطع عيشي في هذا البيت، فسأله عما به فقال: أوصاني أحد الأشخاص بأن أضع لك السم في طعامك فوضعته في طبق سيقدم إليك بعد قليل».

ويتابع الشيخ المنشاوي: «وقال الطباخ: لا تقترب من هذا الطبق أو تأكل منه، وقد استيقظ ضميري، وجئت لأحذرك لأني لا أستطيع عدم تقديمه إليك، فأصحاب السهرة أوصوني بتقديمه إليك خصيصا تكريما لك، وهم لا يعلمون ما فيه ولكن فلان - ولم يذكر الشيخ اسمه - أعطاني مبلغا من المال لأضع لك السم في هذا الطبق دون علم أصحاب السهرة، ففعلت فأرجوا ألا تبوح بذلك فينفضح أمري، ولما تم وضع الطبق المنقوع فيه السم عرفه الشيخ كما وصفه له الطباخ، وادعى الشيخ بعض الإعياء أمام أصحاب الدعوة ولكنهم أقسموا عليه، فأخذ كسرة من الخبز، قائلا: هذا يبر يمينكم ثم تركهم وانصرف ولم يفصح الشيخ عن اسمه بل ما أدهشه أنه أحد المقرئين لكتاب الله».

 

واقعة الميكروفون
ومن ضمن وقائع الحقد أيضا على شهرة الشيخ الجليل، روّج أحد المقرئين أيضا لإشاعة بأن صوت «المنشاوي» ضعيف ولا يستطيع أن يبلغ مستمعيه دون «ميكروفون»، وفي سهرة دعي إليها الشيخ المنشاوي بمحافظة المنيا، ودعي معه مقرئ آخر وكان الحضور يزيد عددهم عن الـ 10 آلاف، جاءوا جميعا حبا في الاستماع للمنشاوي، فلما أحس المقرئ بشغف الناس ومطالبتهم صاحب الدعوة بالتعجل بالشيخ المنشاوي بالتلاوة، فما كان منه إلا أن أوصى عامل «الميكرفون» بافتعال عطل في «المايك»، وأطلق بين الناس شائعة أن صوت الشيخ ضعيف ولولا الميكرفون ما كان له هذا الصيت، وعندما بدأ الشيخ يستعد للتلاوة فوجئ بعامل الميكرفون يخبره بوجود عطل يتعذر إصلاحه، فاستشعر الشيخ بأن هناك مكيدة لإحراجه وسط هذا الجمع الغفير، فما كان منه إلا أن استعاذ من الشيطان الرجيم وأخذ يقرأ بين الناس ماشيا على قدميه تاركا «دكة القراءة» وتجاوبت الجماهير معه، حتى أبهر الناس بقوة صوته.

المنشاوي والزعماء
الشيخ محمد صديق المنشاوي، لم يسع على مدار حياته من التقرب إلى رئيس أو ملك، بل عرف عنه أنهم من يسعون إليه، وتمثل ذلك في الدعاوى التي أرسلت إليه من الرئيس الأندونيسي سو كارنو، وملك ليبيا محمد إدريس السنوسي.
ويروي الكاتب الصحفي محمود السعدني، إنه «عندما ذهب الشيخ المنشاوي إلى ليبيا ليقرأ أمام الملك السنوسي في الستينات وكان يملك ساعة يد قد صنعت من أجله خصيصا ولا يوجد منها في العالم إلا واحدة فقط وكانت أغلى شيء يقتنيه، وحينما شرع الشيخ المنشاوي في التلاوة وأبكي الجميع حتى الملك نفسه، طلب من الشيخ أن يتوقف، ثم قام وخلع ساعته أمام الجميع وأعطاها للشيخ، فقال له الشيخ: لا فأنا أعلم أن هذه الساعة هي أغلى شيء تقتنيه وتحبه، فقال له الملك: كيف لا أعطيها لك وأنت الذي دخلت قلبي دون أن تستأذن، ثم أعطاها له»..

ويروي السعدني، أيضا، أن «الزعيم الراحل جمال عبد الناصر قد أرسل أحد وزرائه للمنشاوي بدعوة للقراءة في محفل يحضره ناصر فوجه إليه الدعوة، قائلا له: سيكون لك الشرف الكبير بحضورك حفلا بحضرة الرئيس، فما كان من الشيخ إلا أن أجابه قائلا: ولماذا لا يكون الشرف لعبد الناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن بصوت محمد صديق المنشاوي، ورفض أن يلبي الدعوة، قائلا: لقد أخطأ عبدالناصر حين أرسل إليّ أسوأ رسله».

 

الجنيه الذهب والمليم
مزمار القرآن، عاش حياته كلها لا يساوم على أجر أو حتى يتفق عليه، ورُوي عنه أنه كان يقرأ في مأتم أحد أعيان قنا، وفي آخر الليل دس شقيق المتوفي بمبلغ في «جيب» الشيخ، وانصرف دون أن يلقي نظرة على المبلغ، ولكنه حين وصل إلى منزله اكتشف أن الذي دسه الرجل في جيبه مليم واحد فقط، وكان الشيخ يتقاضى في وقتها جنيها عن كل ليلة، وقبل أن يفكر في الذي حدث جاءه الرجل صاحب الليلة معتذرًا عما حدث من خطأ، فقد كان في جيب الرجل جنيه ذهبي ومليم وكان ينوي إعطاءه للشيخ، فأخطأ وأعطاه المليم، ولكن الشيخ المنشاوي رفض أن يتقاضى شيئا فوق المليم، وتلا قول الله تعالي: «قل لن يصيبنا إِلا ما كتب الله لنا».

 ابن الوز عوام
«ابن الوز عوام»، مثل ينطبق على القارئ الشيخ محمد صدِّيق المنشاوي الذي ولد في 20 يناير من عام 1920م، ورحل في 20 يونيو من عام 1969م، وهو من مواليد مركز المنشاة محافظة سوهاج، وأتم حفظ القرآن الكريم وعمره 8 أعوام، وهو من أسرة حملت رسالة تعليم القرآن وتحفيظه وتلاوته على عاتقها فأبوه المقريء الشيخ صديق المنشاوي الذي ذاع صيته في أنحاء مصر والوجه القبلي معلما وقارئا ومجودا للقرآن وله تسجيلاته النادرة بإذاعات سوريا ولندن والتي تذاع بصوته حتى الآن وعمه الشيخ أحمد السيد وهو الذي رفض القراءة بالقصر الملكي، وأبوهما السيد تايب المنشاوي قارئ ذاع صيته أيضا وجده كذلك، فكان الشيخ محمد هو نبت هذا الفضل القرآن.

 وزار الشيخ المنشاوي الابن العديد من البلاد العربية والإسلامية وحظي بتكريم بعضها، حيث منحته إندونيسيا وسامًا رفيعًا في منتصف الخمسينيات، كما حصل على وسام الاستحقاق من الدرجة الثانية من سوريا عام 1965م، وزار باكستان والأردن وليبيا والجزائر والكويت والعراق والسعودية، وقد ترك الشيخ أكثر من 150 تسجيلا بإذاعة جمهورية مصر العربية والإذاعات الأخرى، كما سجل ختمة قرآنية مرتلة كاملة تذاع بإذاعة القرآن الكريم وتلاوته.

 

خلال رحلة شهرته التي جابت الآفاق، أصيب الشيخ في عام 1966م، بمرض «دوالي المريء» الذي لم يمنعه من قراءة القرآن الكريم، حتى توفاه الله يوم الجمعة 20 يونيو1969، وكرمته مصر بعد وفاته في احتفالات ليلة القدر بمنحه وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، واختير قارئ القرآن الأول في القرن العشرين في عدد من الدول..