حكايات| «سيد القراء».. صوت من الجنة أحبه الأقباط واليهود

سيد القراء محمد رفعت
سيد القراء محمد رفعت

دخل إلى غرفته كعادته بعد كل صلاة عشاء ليعتكف بها، ويناجي ربه، فهو مؤنسه وحبيبه وسيده ومولاه، وخلال تمتمته ببعض ذكر، غفى للحظات؛ ثم آفاق وخرج مسرعا من غرفته لينادي على ابنه محمد ويطلب منه أن يقوم بتحضير «الكارتة» الخاصة به.

 

وما أن ارتدى جلبابه وأحضر ابنه «الكارتة» حتى نزل من بيته مسرعا، وبرغم أنه كان ضرير العين، إلا أنه كان بصير القلب، فأخذ يصف لابنه الطريق خلال سيرهما، وابنه لا يفهم ماذا يحدث أو إلى أين يتوجه به أبيه، وخلال التساؤلات التي تتقافز في ذهنه، جاء صوت أبيه يخترق كل تلك التساؤلات، وقال له: قف عند ذلك المآتم، وما أن وقفوا عنده، حتى توجه إلى سرادق العزاء، وسأل الحضور: «فين ابن المتوفاة؟»، وما أن آتى ابن السيدة المتوفاة، حتى بادره قائلا: «لما والدتك أوصتك إن الشيخ محمد رفعت يجي يحيي ليلتها عقب وفاتها، مكلمتنيش ليه»..

 

ارتسمت علامات الدهشة على ابن السيدة وعلى ابنه الشيخ رفعت، متسائلين: «كيف علم أن المتوفاة سيدة.. وكيف علم بوصيتها؟»، وقبل أن يغرقا في بحر من الأسئلة، رد عليه ابن المتوفاة: «إحنا مش قد الشيخ رفعت.. إحنا ناس على قدنا».

فطلب منه الشيخ محمد رفعت أن يستأذن القارئ الموجود ليجلس مكانه ويستكمل القراءة، تنفيذا لوصية أمه، وأخبرهم أنها جاءته في رؤية تخبره بوصيتها، وأخبرته بمكان العزاء، وما أن آفاق حتى طلب من ابنه أن يحضر «الكارتة» للذهاب لإحياء ليلتها..

 

القارئ المعجزة

ربما تلك أبرز كرامات «سيد القراء» و«الصوت الملائكي» و«قيثارة السماء» و«القارئ المعجزة»، الشيخ محمد رفعت، الذي يشبه صوته الكروان، وارتبط في وجدان المصريين والعالم بشهر رمضان الكريم، فما أن يبدأ شهر رمضان المعظم ومع قرب انتهاء كل نهار  وانطلاق مدفع الإفطار، إلا وتملك الجميع شعور روحاني يغلف القلب والروح، عندها تصمت كل الجوارح في مصر خشوعا لذلك الصوت الندي الذي يحمل عبق وذكريات الشهر الفضيل وهو يصدح: «الله أكبر .. الله أكبر»..

 

 

مولده وبداياته

«وسيد القراء» ولد في يوم الإثنين 9 مايو عام 1882م بحي المغربلين بالقاهرة، وفقد بصره صغيرا وهو في سن الثانية من عمره، وحفظ القرآن في سن الخامسة، حيث التحق بكتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب ودرس علم القراءات وعلم التفسير، ثم المقامات الموسيقية على أيدى شيوخ عصره، وتوفي والده محمود رفعت والذي كان مأمور قسم شرطة الخليفة وهو في التاسعة من عمره، فوجد الطفل اليتيم نفسه مسئولا عن أسرته وأصبح عائلها الوحيد، فلجأ إلى القرآن يعتصم به ولا يرتزق منه.

 

وتولى القراءة بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب سنة 1918م وهو في سن الخامسة عشرة، فبلغ شهرة ونال محبة الناس، وافتتح بث الإذاعة المصرية سنة 1934م، وذلك بعد أن استفتى شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم فأفتي له بجواز ذلك فافتتحها بقول من أول سورة الفتح: «إنا فتحنا لك فتحا مبينا»، ولما سمعت الإذاعة البريطانية بي بي سي العربية، صوته أرسلت إليه وطلبت منه تسجيل القرآن، فرفض ظنا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتى الإمام المراغي فشرح له الأمر وأخبره بأنه غير حرام، فسجل لهم بصوته سورة مريم.

 

 

الصوت الكروان

محمد رفعت ذلك الصوت الملائكي، الذي استلب القلوب والعقول في كل بقاع الأرض بعذوبة صوته وجماله وشدة تأثيره، وكان سببا في دخول الكثيرين إلى الإسلام، فقد كان له طريقته الخاصة في قراءة القرآن الكريم، واتسم بالتجسيد للمعاني الظاهرة للقرآن الكريم، وإمكانية التجلي ببواطن الأمور للمتفهم المستمع بكل جوارحه، لا بأذنه فقط، وكأن الشيخ كان يعمد إلى التأثير فيمن حوله بتأثره البالغ.

 

كان يبدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرحيم، والبسملة، ثم الترتيل بهدوء وتحقيق, وصوت خفيض، يعلو بعدها صوته، فيصبح مرتفعا لكنه رشيدا يمس القلب ويتملكه، ويسرد الآيات بسلاسة، ويسر، واستشعار لآيات الذكر الحكيم.

 

الصوت الكروان، كان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلف، فقد كان صوته يجرى مقامات موسيقية مختلفة، ويستطيع أن ينتقل من مقام إلى مقام دون أن يشعرك بالاختلاف، فنجد الناس يبكون عندما يقرأ آيات الترهيب، وتفرح بذكره آيات الترغيب لذا سمى «بسوط عذاب وصوت الجنة»، وعند سرده القصص القرآنى يتفكرون فى الآيات ويتدبرونها ويعتبرون منها، وعندما يتصدق - أى يقول صدق الله العظيم - يندمون على بُعده, ويتمنون لو استمرت تلاوته أبد الدهر، ويعتبرونه صوتا من الجنة.

 

قالوا عنه

«سيد قراء هذا الزمن.. موسيقي بفطرته وطبيعته، إنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها.. إنه بصوته فقط يأسرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا»، هكذا وصف الأديب محمد السيد المويلحي في مجلة الرسالة..

 

أما الكاتب الصحفي أنيس منصور، قال عنه: «لا يزال المرحوم الشيخ محمد رفعت أجمل الأصوات وأروعها, وسر جمال وجلال صوته أنه فريد في معدنه، وأن هذا الصوت قادر علي أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، ثم إنه ليس كمثل أي صوت آخر».

 

كما وصفه الموسيقار محمد عبد الوهاب بأنه: «صوت ملائكي يأتي من السماء لأول مرة». وقال عنه مفتي سوريا في حينها: «إنه جدد شباب الإسلام».

 

محبة الأقباط واليهود

قصص كثيرة موثقة، كان بطلها صوت الشيخ محمد رفعت، لعل من بين أبرزها أن مصريين مسيحيين كانوا يحرصون على سماعه، لاسيما توقف سائق الترام الذي يمر بجانب المسجد الذي يقرأ فيه الشيخ رفعت، فيوقف الترام لكي يستمع لقراءة رفعت.

 

كما اعتادت الفنانة ليلى مراد على الذهاب إليه قبل إسلامها برفقة والدها؛ لسماع الشيخ وهو يقرأ القرآن، على الرغم من أنها كانت يهودية الديانة في ذلك الوقت.

 

بل وكان منزل الشيخ رفعت منتدىً ثقافيا وأدبيا وفنيا؛ حيث ربطته صداقة قوية بالموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي أطلق عليه الصوت الملائكي، وكان يحرص على قضاء أغلب سهراته في منزل الشيخ بالسيدة زينب، وكثيرا ما كانت تضم هذه الجلسات أعلام الموسيقى والفن، وكان عبد الوهاب يجلس بالقرب منه في خشوع وتبتل، وتدور بينهما حوارات ومناقشات حول أعلام الموسيقى العالمية.

 

القارئ لا يهان

وربما من أبرز مقولات سيد القراء محمد رفعت: «إن قارئ القرآن لا يهان.. وأنا لا أبحث عن المال أبدا، فإن الدنيا كلها عرض زائل»، وكان ذلك عام 1935 حينما رفض الذهاب للهند بعد أن ضاعف نظام حيدر آباد العرض المادي إلى 45 ألف جنيه، فغضب وقال قوله ذاك.

 

كانت وفاة الشيخ محمد رفعت في مثل هذا اليوم 9 مايو من عام 1950، وهو التاريخ نفسه الذي وُلد فيه، عن ثمانية وستين عاما قضاها في رحاب القرآن الكريم، حيث تعرَّض قبلها بثماني سنوات من ورم في الأحبال الصوتية، منعَ الصوت الملائكي النقي من الخروج، ومنذ ذلك الوقت حُرم الناس من صوته.

 

الإذاعات العربية اعتمدت لسنوات طويلة قراءة الشيخ رفعت في افتتاحياتها، أو ختام إذاعة برامجها عند المساء، كما أنه يعد أحد أهم ملامح شهر رمضان الكريم، ليس فقط عند المصريين؛ بل في البلدان العربية، حيث تعتمد تلاوة القرآن بصوت الشيخ ثم يصافح صوته أذان المغرب في معظم المحطات الإذاعية والتليفزيونية، وحتى يومنا هذا.