اللقاء الثاني

محمد داود يكتب: «أنا والملحد».. صمتًا الكون يشهد

الدكتور محمد داود - أستاذ علم اللغة بجامعة قناة السويس
الدكتور محمد داود - أستاذ علم اللغة بجامعة قناة السويس

في سلسلة مقالات للدكتور محمد داود أستاذ علم اللغة بجامعة قناة السويس، يسلط الضوء على قضية الإلحاد، من خلال الرد على تساؤلات وردت بالفعل، ننقلها لكم يوميًا.

 

عمل في  البداية على نشر هذه التساؤلات عبر صفحة على موقع «فيسبوك»، تحمل اسم « الملحدون يعترفون»، ثم أشار عَليه بعض أصحابه بسلسلة تجمع خلاصة هذه الحوارات فى كتاب لتكون متاحة لمن لا زالوا يفضلون النسخة الورقية للكتاب على النسخة الإلكترونية.

وإلى تفاصيل اللقاء الثاني: 

بعد لقاء علمي ... خرجت إلى شرفة غرفتي أشهد الأفق الذهبي على صفحة مياه المحيط الهادي بإحدى جزر أندونيسيا بمدينة جاكرتا، وكان النهار يلفظ أنفاسه الأخيرة فالشمس تفارقه وكأنها تلبى نداءً وراء عالمنا... في مشهد مهيب وكأني أرى الغروب لأول مرة... استوحيت منه نسمات فلسفية... أين تذهب الشمس؟!!. أتسجد عند عرش الرحمن كما أخبرنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!... أم هي الآن تسطع على منطقة الكاريبي.. وتتعامد على تونس الخضراء... كما تخبرنا وكالة ناسا لعلوم الفضاء. 


شتان بين الصورتين.. أو على الأقل كما يبدو.. ولكن كما قلت نسمة فلسفية... وهذه الكلمة الإغريقية الأصل ذات الشقين تعنى المحب للحكمة.. أو الباحث عن الحكمة.. نعم هذا حالي في هذه اللحظة.. نحن أمام تفسيرين لظاهرة واحدة.. أين تذهب الشمس!.. 
الدين.. وناسا.. وإن كانا للوهلة الأولى يبدوان على النقيض... إلا أنه لا ضير أن ننظر للمسألة بنظرة فلسفية.. أو بمعنى آخر نبحث عن الحكمة... وتقفز كلمات القرآن إلى ذاكرتي لتلقى الضوء على ذلك السجود الشمسي المهيب.. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس: 38]. نعم قدر الله لها.. بعزته وسلطانه.. أن تتبع هذا المسار الذي لا ينبغي لها أن تتلكأ فيه.. منصاعة إلى أمره عز وجل طائعة له خاشعة.. دون تردُّد ولا تذمر.. أليس هذا هو السجود.. الطاعة المطلقة والاستسلام التام. 
و لماذا تخيلنا أن على الشمس أن تسجد سجود البشر على سبع؟!!! 


إن للشمس سجودًا يتفق مع تكوينها العظيم، وهو أن تجوب أقطار الفضاء بهذه السرعة الهائلة ملبية تقدير العزيز العليم... أن تشرق في هذه الساعة على منطقة الكاريبي.. وأن تتعامد على تونس الخضراء.. بطاعة لا تحيد عنها.. وبرتابة لا شذوذ فيها، الأمر الذي جعل وكالة ناسا ترصده وتدونه بهذه الدقة والثقة. 


ولأول مرة.. تنبهت أن دقة وكالة ناسا ما هي إلا توثيقٌ لكلمات الله.. ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ هنا قلت في نفسي.. وجدتها.. كما قال إسحق نيوتن حينما شهد سقوط التفاحة وهو مستلقيًا على ظهره تحت الشجرة.. حينما اكتشف قانون الجاذبية.. نعم أنا وجدتها.. ما ترصده وكالة ناسا والعلم عمومًا هو وجهٌ لعملة وجهها الآخر آيات القرآن... لا ينفصمان في نظرة المحب للحكمة... أليست الحكمة هي وضع الشيء في مكانه المناسب وتقديره بما يناسبه مكانًا وزمانًا.. ها أنا ذا قد بدا لي وجهي العملة.. واكتملت الصورة.. 
وبينما أنا في نشوة هذا الاستنتاج الرائع.. اقترب منِّى شاب وسيم تبدو عليه مظاهر الثراء، أنيق الملبس، واثق الخطى.. أتى من غرفة مجاورة.. وبادرني بابتسامة.. وتبينت أنه يقصد الحديث معي.. وبادلني التحية.. ونظر إلى الأفق الذي كنت أشهده، وقال: ما أبهى الطبيعة.. وما أجمل الغروب.. ولادة ليلة رائعة، أؤكد لك أنى سأستجمع فيها ما أستطيع من السعادة حتى يأتي فجر يوم جديد.. ثم التفت إلىّ وقال.. كنت أستمع إلى حديثك في القاعة مع أصحابك عن إله الكون.. وعظمة الخالق.. وكلمات القرآن.. وأنا لا أؤمن بأي شيء من ذلك.. ولست وحدي في هذا الشأن.. بل لعلك تعجب أن من يشاركونني الرأي هم في أكثر الدول تقدُّمًا وحضارة، وكأنكم يا أهل الأديان مقيدون بما تؤمنون..!!! 


واستطرد في ثقة يقول : بل أؤكد لك بالأدلة.. أنه لا حجة لكم في العصر الذي نعيش !!! 


فقلت له... يكفى أنك تؤمن بالعلم. 
قال : نعم... وأفتخر بذلك. 
قلت له.. مادمت تؤمن بالعلم فأنت إذن تقبل نتائج العلم.. تقبل شهادة العلم... فهو الشاهد الثقة لديك... هو الشاهد المحايد الذي لا يجامل أحدًا. 
قال : نعم. 
قلت له : حسنًا. 
ها هو العلم يشهد.... فهل نستمع سويًّا لشهادته. 


وكأن أصداءً كونية من حولنا تنادى... صمتًا الكون يشهد.. صمتًا الكون يشهد.. صمتًا الكون يشهد... 
من أعماق الزمن البعيد.. من مئات الملايين من السنين.. تأتى الجبال الراسيات الشامخات.. وهى تمر عبر الزمن مَـرَّ السحاب.. تقطع الآفاق لتشهد لمن أرساها وجعلها أوتادًا... وتعلن أن لو كانت مُكلَّفة كالإنسان وتنزَّل عليها القرآن لكانت خاشعة متصدعة من خشية الله.. قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21]. 


وهذا شاهد قريب.. من أقرب ما يكون للإنسان... إنه من أعماقه.. إنه النطفة التي منها خُلق الإنسان..الخليفةُ المكرم.. خلقه الله في أحسن تقويم.. 


جاءت النطفة تشهد لخالقها 
جاءت العلقة تشهد لخالقها 
جاءت المضغة تشهد لخالقها 
جاءت العظام تشهد لخالقها 
جاء اللحم الذي يكسو العظام يشهد لخالقه 
جاءوا جميعًا ليشهدوا.. للقرآن بصدق ما جاء به.. 


جاءوا جميعًا ليشهدوا لمحمد صلى الله عليه وسلم بصدق ما أخبر به.. قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12-14]. 
وهذه المفاصل جاءت تسعى لتشهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بصدق ما أنبأ به وأخبر. 
عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل» (مسلم). 
ومن هناك.. من العالم العلوي تأتى السماء في عظمتها لتشهد لخالقها.. الذي بناها سبعًا شدادًا وجعلها ذات بروج، وملأها حرسًا شديدًا وشهبًا، وزينها بمصابيح وجعلها رجومًا للشياطين، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 26]. 


ومن تحت أقدامنا صوت ينادينا.. من هذا التراب.. من الأرض التي أتت تشهد لخالقها.. بما أودع فيها من شواهد الحق وبراهين الإيمان.. وهذا الصدع الكبير الذي تنتهي إليه كل الصدوع الأخرى.. قال تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: 11-13]. 


وهذه طلاقة القدرة للخالق في أرضه وسمائه ... في الجبال وفى الليل والنهار جاءت تشهد لخالقها بما استودع فيها من آيات القدرة وشواهد الحق؛ قال تعالى: .أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ [النازعات: 27-33]. 


وهذا غيض من فيض، ولكن.. سؤال يلح على العقول ويتكرر من الخالق لكل صاحب عقل يتدبر؛ قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ [الطور: 35-36]. 
سؤال يتكرَّر ويلح على العقول يوقظ به الخالق عقول البشر جميعًا، قال تعالى: أَفَمَن يَّخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [النحل: 17]. 


سؤال يتكرر للإنسان.. الخليفة المكرم.. الذي سخر الخالق له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.. وكان هذا الكون ولم يكن للإنسان فيه ذكر، ولا وجود... فمن الذي جعل للإنسان ذكرًا.. ومن الذي جعل للإنسان وجودًا.. قال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 1-3]. 


فيا أيها الإنسان.. ما الذي غرَّك وأنت قطرة من فيض جود الخالق؟!. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6-8]. 
فكيف تنكر أيها الإنسان حق الخالق عليك؟!!! 
وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ 
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ 
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الْأَبْصَار