في رواية «كيرم» لـ«رحاب أبو زيد».. هل تدفع المرأة ثمن وجودها بالحياة؟

رواية كيرم
رواية كيرم

في قراءة رواية "كيرم" للكاتبة الروائية السعودية رحاب أبو زيد، عن دار ملهمون، عوالم تشيع بالفوضى والتشظي، وشخصيات تجمع الأضداد والمتناقضات، ولغات ولهجات سيدتها العظمى فصحى رصينة متأنقة، تطاردها مفردات إنجليزية هنا وهناك، وبينهما مفردات مغرقة في الشعبية التي ربما تستعصي على قارئ غير خليجي مثل "رزة" و"جحلط" و"مهجول" في وصفها لهندام وضبطية مرزام الشماغ الذي يحدد هوية شخصية صاحبه!

 

الكاتبة تثير الشغف بطرحها ونثرها لعشرات الأسئلة، دون أن تقيدنا بإجابة أو إجابات محددة لعوالمها التي برعت في بنائها، ودون أن تفرض علينا نظرتها للحياة والعلاقات الإنسانية الحافلة بالنجاحات والإخفاقات والخيبات كثياب أعيتها الثقوب أو فراشة بديعة أثقلتها الأعباء والمعاناة وألوان الغدر والخيانة والاحتراق.

 

البطل الحقيقي في الرواية هو الزمن في التصاقه بشخصية بطل الأحداث "يزن"، الهارب من الزمن، اللامنتمي ولا حتى لذاته بطريقة أو بأخرى، وكما حشرنا أديب نوبل نجيب محفوظ في "المصعد – المكان البطل الرئيسي" في روايته التي تحولت فيلمًا سينمائيًا يحمل عنوان "بين السما والأرض"، وضعتنا أبو زيد، في قلب الزمان، نصف يوم، 12 ساعة تدور فيها أحداث الرواية المتشابكة، التي برعت الكاتبة في بناء شخصياتها والتعبير عنها إلى حد التماهي معها في أحيان كثيرة.

 

بين عوالم "يزن" عبقري الكمبيوتر وتطبيقاته، صاحب العلاقات النسائية المتعددة بين سهى وكواكب وبدرية وزين، الذي يعاني من ضغوط أعباء الحياة الروتينية، وفي الوقت نفسه يرفض بكل السبل الخروج عن هذا النمط، فهو يرفض المواعيد الطارئة بل وينسى المواعيد المجدولة ويتجنبها بكل السبل، حتى الموعد الذي بات يرتب له ويذكر نفسه به، لندوة تدشين كتاب صديقه الطبيب النفسي "خارق"، ينساه ويذهب إلى حفل التدشين في اليوم نفسه والساعة ذاتها ولكن بعد أسبوع من التئام ندوة التدشين.

 

ويتحكم الصديقان "صموئيل" الأمريكي و"عيشان" اليمني مع "خارق" في تحريك دفة الأحدث، التي يمر بها "يزن"، كما تتحكم محبوبة يزن، "زين" في ترمومتر مزاجه وتناقضات وتحولات شخصيته صعودًا وهبوطًا، انتصارًا وانكسارا على امتداد أحداث الرواية.

 

تنجح الكاتبة في أكثر من موضع في السيطرة على عوالم الفوضى التي تسود حياة شخصيات روايتها وأحداثها، كالفوضى التي تحدثها الضربة الأولى في لعبة "كيرم"، إذ أننا أمام مفاهيم متعددة للحب والكره والخير والخيانة، ومفاهيم أخرى ضمنية لعذابات عانتها المرأة العربية بتسليعها وتحويلها لجسد تلتهمه الذئاب بغواية منها أو تفريط من مجتمعات ذكورية طوال الوقت.

 

بميزان دقيق كميقاتي لمباراة حامية بين متنافسين، تعنون الكاتبة فصول روايتها بالساعة وتلون أحداثها بألوان تتأرجح بين بين النخب الأبيض والدبق الرمادي والفصام البنفسجي والجسم الأزرق الذي يوشي بموت مؤجل وصلًا إلى العصبون الأسود وهو قمة المأساة التي يعيشها بطل الرواية يزن، الذي أستغل ولعه ببرامج وتطبيقات الكمبيوتر والهواتف الذكية، فصمم تطبيقًا يحمل أسم "غازلني" لتوفيق كل رأسين وتقريبهما، وأنتهى به الأمر مدانًا مقبوضاً عليه بتهمة تدشين تطبيق غير أخلاقي وغير مشروع ومهين، وهو الخبر الذي تناقلته الصحف واصفة يزن بالفلتان.

 

كساحر يحرك عرائس المارونيت، تلاعبت الكاتبة بشخوص روايتها وحركتها بل وتحركت معها، وقدمت خلاصات وأحكام كاشفة، نجحت بها في تعرية عوالم واقعية وأخرى موازية وافتراضية في المجتمعات العربية، وطرحت نماذج لبعض شباب هذه المجتمعات، تتراوحبين الالتزام والانغلاق التام، إلى الانفتاح والفلتان هنا وهناك، في تنقلات مكانية بارعة وموحية، بين الرياض وجدة وعدن وصنعاء والمنامة وعوالم وأماكن غربية، استدعتها بمتابعة المسلسل الأشهر "لعبة العروش".

 

كما كشفت علامات خيبات الزمن وويلاته على المرأة بالذات، التي بدت طيلة الرواية وكأنها تكفر عن ذنوب لم تقترفها، وتدفع فاتورة أزمنة ولت وإرث مجتمعي لا يد لها فيه، ذلك الإرث الذي شاطر الزمن قسوته حين يترك بصماته الحادة على الروح قبل الوجوه والملامح، في شخصيات عدة أبرزها الطبيبة البايرة التي تعاني سواد الوجه التي تضطر للزواج من مرزوق، فرد أمن جاهل يشتري شهادة ليرتقي في السلم الاجتماعي أمام الناس خاصة وزوجته تعمل طبيبة في المستشفى نفسه الذي يحرس أحد أبوابه!

 

تتعاطف أبو زيد مع بطل روايتها "يزن" الذي يفر من نفسه ومن الزمن تلاحقه أعراض نسيان تشبه الزهايمر، فيحدث نفسه في أحد مواضع الرواية، بلغة المونولوج الداخلي ليعلن موقفًا سياسيًا ربما تتبناه الكاتبة ذاتها بقوله:" كنا بخير قبل الربيع العربي حتى لو كان الخير شكليًا، صحيح أن مصائبنا مكبوتة متوارثة، لكننا كنا بخير وجهل منظم قبل الإعلام الجديد وسقوط الأقنعة والمبادئ، مع سقوط الأصنام، وصحيح أني مبرمج عاشق للكمبيوتر ولجديد التقنية، لكني أقر أن السوشيال ميديا من ويلات القرن"!؟

 

انتقت الكاتبة بعناية فائقة أسماء شخصيات روايتها، فالنبوغ والتميز كانا من نصيب خارق، رغم ضعفه واضطرابه وطلبه للمساعدة والدعم النفسيين من زملائه، إلا أن كل له من أسمه نصيب، فيما الاضطراب كله بحثًا عن لقمة العيش والاستقرار، والبحث عن كفيل لـ "عيشان"، كما جاءت جميلة لتحمل اسم زين، أما جاره الكريم فهو أبو سعدون، وجارته المزعجة فكنيت بـ "أم الزلازل".

 

وبالقدر نفسه من الحسم، قدمت الروائية رحاب أبو زيد، أحكامًا قاطعة نحتتها نحتًا كدستور حياة، يشبه في صرامته، قواعد لعبة "كيرم" التي تظل في نظر البعض مجرد لعبة، لا يجب التعاطي معها باكتراث، أو أخذها على محمل الجد في كل الأحوال.

 

فهي تؤكد أنه "لا اتصال بين النسيان والاهتمام"، حين تواجه يزن بعدم اكتراثه بحفل تدشين كتاب صديقه خارق رغم ما أبداه من حرص انتهى به وبنا إلى نسيان الموعد، وتعلنها صريحة أن البوتكس لا يحمي من شيخوخة القلب، كما تؤكد أن الأسود ليس عدوًا للأبيض أو منافسًا له، بل هو عالم وحده، هو الحل للأزمة وهو الأزمة ذاتها، هو الضيق وهو الأفق والمساحة، وفي وصفها لمبررات الخيانة في وجهة نظر يزن، تقول:" أسهل كذبة هي تلك التي تؤديها على نفسك، المؤسف حقًا أن تنطلي عليك".

 

وتخلص الرواية بحكمة قاطعة تلخص تشظي عوالم الفوضى جميعها، فتقول:" عندما تدور دورة كاملة حول الحياة، فماذا تنتظر بعد، سوى البلادة، وماذا تتوقع سوى الحماقات، كم هي مشوقة.. عودة الأيام الرتيبة".

 

رحاب أبو زيد درست الأدب الإنجليزي وتأثرت به إلى حد بعيد في تجاربها القصصية والروائية، حيث أصدرت خمسة كتب تنوّعت بين الكتابة الروائية والقصصية وكتابة المقالات، هي رواية «الرقص على أسنة الرماح» 2010، وكتاب "بجناح واحد" 2014، وفي 2016 كتاب مقالات تحت عنوان "بتونّس بيك"، ومجموعة قصصية "حليب وزنجبيل".

 

ولأن ثمة نهايات لا تعلن عن نفسها، انتهى بطل رواية "كيرم" سجينًا، وصحبه اليمني عيشان المولود في السعودية يبحث عن كفيل،فيما يحاول صمويل صاحبه الآخر ترضية الفتاة السعودية التي أرادها زوجة وهي أبدًا عاصية على الارضاء.. ومع ذلك تمضي محطات الحياة كأشواط في لعبة "الكيرم" فيها الرابح والخاسر مهما أجادها اللاعبون!