حكايات| اكتئاب وانتحار.. حياة لاعبي كرة قدم بعد تعليق الحذاء

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

قاسية هي كرة القدم.. تجبرك على عشقها، فتمارسها وتفني حياتك من أجلها، ترد عليك بالأموال والشهرة والنجومية الكبيرة، كلما أعطيتها أعطتك، ولأنها لغة عالمية تتخطى كل الحدود لتمنحك الشهرة العالمية، أو تظل لاعبًا محليًا، تعطيك بقدر ما أعطيتها حتى لحظة تعليق الحذاء، وما بعد هذه اللحظة فصول تُحكى في استمرار النجومية أو محاولة الانتحار!
 

قطار كرة القدم يسير بسرعة مذهلة منذ بداية القرن الحالي، بعدما أصبحت صناعة حقيقية تدر أموالاً تضاهي صناعات استراتيجية عديدة، ولكن هذا القطار لم ينتبه لدهس العديد من المشاعر المرتبطة بهذه الساحرة المستديرة، فحمل بعض المنتمين إليها إلى المجد والأموال، ودفع آخرين للانتحار تحت عجلاته.

 

اقرا للمحرر:  رحلة مصري من «المظاليم» حصد دوري أبطال أوروبا أربع مرات


وبحسب بحث أجرته منظمة «XPRO» فإن نسبة 40% من اللاعبين المعتزلين يعلنون إفلاسهم عقب قرار الاعتزال بمدة تقدر بخمس سنوات، وهذا على الرغم من أن متوسط الرواتب في الدوري الإنجليزي الممتاز يصل إلى 2.3 مليون جنيه إسترليني في العام الواحد، وهذا كله لا يمنع الإفلاس والاكتئاب بسبب نمط حياة لاعبي كرة القدم.


صرخة كارلايل

 

في التاسع من يوليو عام 2013، أكد كلارك كارلايل، رئيس رابطة اللاعبين المحترفين في إنجلترا، وجود مئات اللاعبين تحت وطأة الاكتئاب في إنجلترا وحدها، مستعرضًا تجربته الشخصية بعد أن حاول الانتحار بسبب الاكتئاب في وقت سابق خلال مسيرته.

ويملك كلارك كارلايل مسيرة احترافية متوسطة المستوى بتمثيله لأندية بلاكبول وكوينز بارك رينجرز وبيرنلي وواتفورد وليدز يونايتد ونورثامبتون بين الدرجتين الممتازة «بريميرليج» والدرجة الأولى، ومعظمهم من أندية وسط الترتيب، وهي المسيرة الطبيعية للاعب متوسط المستوى، حيث بدأها في العام 2000 وأنهاها بعد 13 عامًا، وانتخب بعد ذلك رئيسًا لرابطة اللاعبين المحترفين.

 

وقال كارلايل: «بامكاني الجزم بأن هناك مئات اللاعبين الذين يعانون الاكتئاب، و1 من أصل 4 أشخاص في المجتمع يعاني من هذا الأمر ولاعبو كرة القدم هم أعضاء في هذا المجتمع».

 

اقرأ للمحرر: الكرة في زمن الحرب.. غزل المحلة ومعجزة التتويج بدوري 73


 

وتابع: «المسألة في ما يخص كرة القدم هو أن هناك ترددًا بين اللاعبين من أجل الاعتراف والحديث عن هذا الموضوع، ما يعني أن هناك الكثير منهم يعانون من الاكتئاب، ولا يصرحوا بذلك، كل ما يريدونه هو ترك كرة القدم، الخروج من نظام احتراف اللعبة، وهؤلاء هم فقط الأشخاص الذين يملكون رقم هاتفي وشعروا أن بإمكانهم الاتصال بي. لا يجب الاستخفاف بهذه المسألة».

وكشف تفاصيل أزمته السابقة: «قررت إنهاء حياتي قبل 10 سنوات بالشكل الأقل ألمًا بالنسبة للجميع. لم تكن صرخة طلبا للمساعدة. ابتلعت الحبوب من علبة دواء وكنت أتوقع نهاية دراماتيكية داخل إحدى الحدائق العامة في المساء، كما يحصل في الأفلام السينمائية، لكن عندما لم يحدث هذا الأمر، فكرت بالعودة مجددًا إلى شقتي من أجل استخدام علبة أخرى ثم الخلود إلى النوم، انتهت المهمة. اشعر بالخوف، بالخوف الفعلي، عندما أفكر بحالتي الذهنية في تلك الفترة».


أسس كارلايل مؤسسة تهدف لمساعدة مرضى الاكتئاب الذي لم يشف هو منه حتى الآن، وأنتج فيلمًا وثائقيًا عن الاكتئاب بين لاعبي كرة القدم في محاولة للمساعدة في الخروج من هذا النفق.


تاريخك ينقذك من انتحار جديد

 

في الرابع والعشرين من أكتوبر 2017، تعرض كارلايل لانتكاسة جديدة بسبب الاكتئاب، وقرر فجأة ترك منزل عائلته، والرحيل عن مدينة بريستون مسقط رأسه إلى مدينة ليفربول محاولاً الانتحار بعيدًا عن الأعين، ترك هاتفه وكل متعلقاته وسار مشردًا في الشوارع والحدائق العامة، وأبلغت عائلته الشرطة للبحث عنه.

 

قال كارلايل لصحيفة «جارديان» البريطانية :" تركت منزلي في بريستون ولم أحمل هاتفي معي وسافرت إلى ليفربول بحثًا عن طريقة للانتحار دون إحداث ضجة، وفكرت في الانتحار داخل أحد المخازن القديمة حتى لا يعثر أحد على جثتي بسهولة".


أوضح كارلايل أن مشجعًا يعرفه أنقذه من الانتحار في ليفربول قائلاً:" فوجئت أثناء وجودي في إحدى الحدائق العامة بشاب من مشجعي كرة القدم يقترب مني ويقول لي أن أهلي يبحثون عني، ورفض تركي واحتضنني وأوصلني بأسرتي مجددًا، لأنني لم أكن أحمل هاتفي ولا أعرف ماذا يدور منذ تركي للمنزل بسبب الاكتئاب".


أزمات ما بعد الاعتزال


ينظر الجمهور دائمًا إلى فرحة اللاعبين بالأهداف، بالبطولات، بالشهرة والأموال والسيارات الجديدة، وحتى الحسناوات من ملكات جمال العالم، ولكن ماذا يحدث بعد الاعتزال، في ظل عدم حصول جميع اللاعبين على القيمة المالية نفسها، فليسوا جميعهم كريستيانو رونالدو أو ليونيل ميسي.
 

نشرت صحيفة «جارديان» البريطانية تحقيقًا عن أزمات اللاعبين بعد الاعتزال، وتحدث من خلاله البعض علانية، في حين رفض لاعبون ذكر أسمائهم لحرج الموقف، وقال أحدهم: «أنا في مشكلة كبيرة، لا يمكنني دفع المبلغ المطلوب في الدعوى القضائية لانفصالي عن زوجتي، إنها فترة عصيبة أحياها، أنا لم أعد لاعب كرة، مسيرتي أصبحت سوداء فجأة، إن لم أفلس بسببها فسأكون قريبا من ذلك».


وتابع: «زملائي السابقين يجتمعون ونرغب في استعادة الذكريات السعيدة التي جمعتنا في الملاعب، وأنا لا أبحث عن التعاطف، ألوم نفسي على السماع لنصائح أضاعت علي الكثير، وكان علي التفكير بشكل مختلف، ربما كنت طماعا ومهملا في بعض الأحيان».

 


اقرأ للمحرر:  الكرة ليست «للدوري الممتاز فقط».. هنا «بيلا» مصنع الدخلات


ستيف سيدويل الذي بدأ مسيرته في أرسنال، ولعب لتشيلسي وأستون فيلا يفسر الأمر قائلاً خلال حوار عبر شاشة «سكاي سبورتس»: «اللاعبون يبنون حاجزا تجاه المجتمع خلال فترة التواجد والتألق بالملاعب، لأن نظام حياتهم يفرض ذلك، وخصوصًا النجوم الكبار، فهناك مجموعة تحظى بثقتهم خلال فترة النشاط الكروي، بعد الاعتزال يصبح الأمر مخيفًا جدًا، فعليك بعد 15 عامًا في نظام محدد يعتني فيه بك عناصر مختلفة من حولك في ناديك ومنتخب بلادك، إلى محاولتك للاندماج في المجتمع بشكل عادي وتكوين علاقات جديدة».


وأشار ستان كوليمور، لاعب ليفربول السابق، في تعليقاته على أزمات ما بعد الاعتزال، أن وكلاء اللاعبين يختفون بمجرد إعلان اللاعب اعتزاله، فهو لم يعد ذا فائدة بالنسبة لوكيله، وطوال سنوات عمره في الملاعب لا يأخذ زمام المبادرة بإدارة أموره، ويتركها لمدير أعماله، وعندما تختفي النصائح باختفاء المصلحة، يصبح اللاعب في الأزمة وحيدًا.

 

اقرأ للمحرر:  بدأت مع «الهضبة».. رحلة أحمد صلاح حسني من الملاعب إلى الفن


وحتى قبل الاعتزال

انطلاقة لم يكن يحلم بها الفرنسي من أصل سنغالي فينسنت بريكارد، بالمشاركة مع يوفنتوس الإيطالي، في مواجهة أرسنال الإنجليزي بدوري أبطال أوروبا 2002، مع جيل يضم عمالقة على رأسهم الهولندي إدجار ديفيدز وأنطونيو كونتي، وتحت القيادة الفنية للأسطورة مارشيلو ليبي، ليصبح نجم شباك في الكرة العالمية وحينها كان بطلاً لفيلم وثائقي بعنوان «اللاعب الذي يساوي الملايين».
 

 

مع هذه الانطلاقة ثم الهبوط في المستوى، رحل بريكارد عن يوفنتوس، لينضم إلى بورتسموث الإنجليزي، ومنه إلى شيفيلد يونايتد، ثم ستوك سيتي، مرورًا بساوثامبتون وعدد من الأندية الصغيرة حتى أعلن اعتزاله في 2015، ووسط كل هذه الانتقالات كان النجم الصاعد يحارب الوحش «الاكتئاب».
 

 

عاش بريكارد حياة الترف التي تفرضها النجومية في بداية مشواره مع يوفنتوس، قبل أن يهرب من تراجع مستواه بالانضمام إلى بورتسموث، وتزايدت الضغوط في الدوري الإنجليزي ونالت منه الانتقادات، فرحل من فريق إلى آخر حتى وصل إلى ستوك سيتي ليبحث عن ذاته، لكنه فوجئ بانتقادات أكبر لتراجع مستواه، فاضطر إلى إغلاق أبواب منزله عليه والبقاء في الظلام باحثًا عن وسيلة للانتحار.
 

وبعد إعلانه الاعتزال قرر بريكارد إنشاء مؤسسة تساعد لاعبي كرة القدم على الاندماج في المجتمع والهروب من شبح الاكتئاب الذي قضى على العديد من النجوم واللاعبين المغمورين بالانتحار، ووصل الأمر إلى دخوله المسجد في مدينة مانشستر الإنجليزية للاستماع لرأي الدين الإسلامي في اليأس والاكتئاب.
 


الوحش النائم في مصر


تواصلنا مع عدد من لاعبي الدوري المصري السابقين والحاليين، ممن كانت لهم تجارب مع الأهلي والزمالك، فأقروا بمرورهم بأزمات مشابهة بعد انحسار الأضواء عنهم برحيلهم عن القطبين الكبيرين، لكنهم رفضوا ذكر أسمائهم، أو استعراض ما يعانونه عبر وسائل الإعلام.