رحلة «الشقيانين» من الأقاليم للعاصمة.. حكايات من دفتر الأمهات الكادحات

رحلة «الشقيانين» من الأقاليم للعاصمة.. حكايات من دفتر الأمهات الكادحات - صورة مجمعة
رحلة «الشقيانين» من الأقاليم للعاصمة.. حكايات من دفتر الأمهات الكادحات - صورة مجمعة

- الحاجة «صفية» تسافر من الدقهلية للقاهرة لتنفق على 5 أبناء.. وأمنيتها: «سُترة البنات»

- «بائعة الفطير المشلتت» طلقها زوجها ورفض النفقة على الأبناء.. ورحلتها من الشرقية للقاهرة

- بائعتا الحمام والسمك تبدأن رحلتهما من مراكز الجيزة للمساعدة في نفقات البيوت

 

كانت عقارب الساعة تقترب من الرابعة والنصف صباحًا، حين استيقظت الحاجة صفية إبراهيم، ذات الـ55 عاما، ابنة محافظة القليوبية، من نومها على صوت صياح الديكة معلنة بداية يوم جديد، لتبدأ «صفية» رحلتها اليومية بحثا عن «أكل العيش»، إذ تحمل «قفتها» التي دأبت على تجهيزها منذ المساء بالبيض البلدي والجبن الأبيض و«المش» والحمام والليمون، وتستقل السيارة التي تحملها من مسقط رأسها حيث قريتها الفقيرة إلى محطة القطار الذي ينقلها للقاهرة، لتستقر في منطقة ميدان الجيزة لتبدأ بيع بضاعتها مع طلوع الشمس وإقبال الزبائن على السوق، لتعود في آخر النهار إلى بلدتها وأبنائها الذين ينتظرونها بعد مشوار الكد والكفاح بحثا عن الرزق.

الحاجة «صفية»: «أمنيتي أستر البنات»

بدأت الحاجة «صفية» حديثها لـ«بوابة أخبار اليوم» قائلة: «ربنا رزقني بثلاث بنات وولدين.. البنات خلفتهم قبل الولاد.. أكبرهم تخرجت من الجامعة والوسطى في الفرقة الثالثة بكلية الآداب والثالثة في الثانوية العامة، والولدين في الإعدادية.. ربنا يبارك فيهم ده اللي أنا عاوزاه من الدنيا أفرح بهم وأسترهم».

وأضافت: «أبوهم عيان بيشتغل يوم وينام يوم وغلبان اتجوزني وكنت أصغر منه بـ13 سنة.. وأرزقي مفيش معاش ولا مرتب.. لازم أتحمل أنا المسئولية علشان منمدش إيدنا لحد.. كل يوم بسافر القاهرة الصبح بدري وأرجع آخر النهار.. ببيع جبنة قريش ومش وبيض وحمام.. والحمد لله بكسب كويس وقادرة أصرف على العيال في تعليمهم.. وبجهز البنت الكبيرة علشان لما ييجي لها العّدل أرفع رأسها قدام عريسها.. وأمنية حياتي أفرح بهم وأشوفهم متجوزين.. مش عاوزة حاجة من الحكومة ولا الناس كل اللي عاوزاه الستر في الدنيا ومتحوجش لحد وربنا يشفي زوجي».

وتابعت حديثها قائلة: «البضاعة عندي في البيت بربي حمام وفراخ وبعمل جبنة قريش.. واللي ناقص من البضاعة بشتريه من أهالي القرية.. والأسعار مش غالية الجبنة القريش بـ5 جنيه للقطعة، والمش الكيلو بـ25 جنيه، والبيض الواحدة بـ1.5 جنيه، والحمام الزوج بـ50 جنيه، والليمون الكيلو بـ8 جنيه.. كل يوم بكسب حوالي 100 جنيه صافي.. والحمد لله عيالي بيقدروا تعبي وبينجحوا في المدارس والجامعات ورافعين راسي وسط الجيران».

بائعة «الفطير المشلتت»: «عاوزة معاش شهري»  

حكاية الحاجة «صفية» ليست الوحيدة، فداخل الأسواق والميادين العامة حكايات كثيرة عن السيدات ممن هم على شاكلتها، واللاتي يكدحن من أجل لقمة العيش عبر مشوار السفر من محافظات الدلتا إلى القاهرة.

التقينا «سماح»، ابنة محافظة الشرقية، ذات الـ38 عاما، التي بدأت حديثها لنا غاضبة من خذلان طليقها لها ولأبنائه بعد رفضه الإنفاق على أولاده في المدارس، وهربه من تنفيذ أحكام قضائية بالنفقة عليهم، لتضطر «سماح» لتحمل المسئولية حيث تأتي كل يوم من قريتها النائية بمحافظة الشرقية إلى القاهرة لتستقر في ميدان رمسيس، مفترشة الأرض وأمامها «الفطير المشلتت» والعسل و«المش».

وتابعت: «لدى ثلاثة أطفال أكبرهم في المرحلة الرابعة الابتدائية والثاني في أولى ابتدائي والأخير لازال دون السن التعليمي.. تحملت النفقة عليهم بعد تخلي طليقي عن أبنائه.. أمي في المنزل وشقيقتي الأصغر يجهزان كل يوم الفطير منذ الليل لأستيقظ أنا في الصباح الباكر مستقلة القطار صوب القاهرة بحثا عن لقمة العيش والرزق حتى أنفق على أبنائي في مدارسهم.. وأبيع الفطيرة الواحدة بـ15 جنيه، وكيلو العسل الأبيض بـ35 جنيه».

وأكملت: «أطالب بمعاش شهري ينقذني من بهدلة كل يوم ويضمن حياة آمنة وكريمة لأولادي.. مشوار كل يوم مرهق ومتعب ومش بلحق أقعد مع عيالي.. ولولا أهلي بيراعوهم بدلا مني بيودوهم المدرسة ويرجعوهم مش عارفة كنت هعمل إيه».

وأضافت: «الفطير يتكون من الدقيق والماء والسمن ويتم عجنه ووضعه بالفرن ولفه بقماش كي يحتفظ بسخونته.. والحمد لله مكفية عيالي وبيتي والعيال متشردوش بعد هروب أبوهم».

بائعة السمك: «احنا رزق يوم بيوم»      

في سوق منطقة «أم المصريين» بالجيزة تجلس الحاجة الحاجة «فاطمة»، ابنة مركز البدرشين بجنوب الجيزة، صاحبة الـ50 عاما، مفترشة الأرض وأمامها أسماك البلطي، حيث تأتي منذ الصباح الباكر من قلب قريتها بالبدرشين مستقلة القطار لتنزل في محطة الجيزة ومنها إلى السوق تشتري بضاعتها من بائعي الجملة بسعر 21 جنيها للكيلو، لتقوم بتنظيفه وبيعه للزبون بـ25 جنيهًا أي مكسب 4 جنيهات في كل كيلو، ومن يرغب في تنظيف أسماكه تقم بذلك مقابل 3 جنيهات للكيلو.

الحاجة «فاطمة».. بدأت حديثها لنا قائلة: «زوجي توفي ومعاشه بسيط لا يكفي مصاريف الشهر في ظل الغلاء الذي نعيشه.. لدي بنات وأولاد متزوجون ومتبقية لدى ابنة واحدة لم تتزوج بعد، أقوم بشراء جهاز العروسة لها من الجمعيات التي أدخل فيها مع جيراني.. سترة البنات مفيش أحسن منها.. ولازم كل يوم أبيع في السوق علشان أقدر أوفر مصاريف الشهر وأقساط الجهاز.. واحنا البياعين كلنا في السوق رزق يوم بيوم».

بائعة الحمام: «زبايني عرسان شهر العسل»     

أما «أم أحمد» بائعة الحمام في سوق «أم المصريين» بالجيزة فتأتي من مركز العياط عبر القطار لتستقر في مكانها بالسوق عارضة بضاعتها من الحمام، وبحسب قولها فإن أكثر زبائنها من المقبلين على الزواج حيث تشتري والدة العروسة كمية كبيرة ضمن عشاء العريس والعروسة، وكذلك يقبل على الشراء العروسان في شهر العسل، خاصة أن الحمام غالي السعر ولا يستطيع شرائه كل الناس.

«أم أحمد»، ذات الـ45 عاما، فضلت العمل لمساعدة زوجها الذي يعمل «صنايعي سيراميك» ولديها 5 من الأبناء في مراحل التعليم المختلفة، موضحة: «بساعد زوجي وبشتري طلبات البيت من السوق في نهاية اليوم وبكسب في اليوم حوالي 150 جنيه».

كل تلك الحكايات التي قمنا بسردها من واقع رحلة كفاح الأمهات الكادحات بحثا عن لقمة العيش عبر مشوار السفر الطويل من المحافظات للقاهرة، يوجد مثلها الكثير التي تمتلئ بهم الأسواق، وتتشابه معاناتهن؛ فمنهن من طلقها زوجها، أو توفى واضطرت لتحمل المسئولية وباتت تعول أبنائها، أو من أجبرها ضيق العيش على الخروج للسوق لمساعدة الزوج في شقاء الحياة.