جحيم المرض النفسي.. قصـص مـوجعـة خلـف جــدران الصمــت

مريضة خلف سور المصحة - تصوير أحمد حسن وحسام المناديلي
مريضة خلف سور المصحة - تصوير أحمد حسن وحسام المناديلي

معزولون عن الحياة , يعيشون فى عالم منفصل عن عالم البشر, يشاهدون الدنيا من خلف القضبان , لم يتحملوا كبد الحياة وآلامها فدفعوا من عقولهم وأعصابهم الثمن, أناس ترى فيهم براءة الطفولة وصخب الصغار , وتمرد المراهقين وحكمة الشيوخ , وزهد العجائز, إنهم المرضى النفسيون او كما يصفهم مجتمعنا –خطأ- «المجانين» فبالرغم من التطور المذهل الذى نعيشه إلا ان وصمة المرض النفسى لازالت كما هى , حتى ان الكثيرين لا يستطيعون الإفصاح بمرضهم او حتى البحث عن العلاج خشية تقاليد المجتمع العقيمة. المأساة ليست فردية بل هى ثقافة مجتمع بأكمله وواقع أليم يعيشه اكثر من 25% من المواطنين حسب إحصائيات الأمانة العامة للصحة النفسية , ونظرا للعجز الشديد الذى نعانيه فى قطاع الطب النفسى لم يبق خيار امام المريض سوى الوقوع فريسة لبيزنس أصحاب المصحات الخاصة التى يصل العلاج بها إلى 50 الف جنيه شهريا شاملة الإقامة فقط , او مصحات «بير السلم» التى لا تحتوى على اطباء او حتى تمريض , او ان يترك متسولا فى الشوارع وأسفل الكبارى لتكن نهايته قاتلا او مقتولا.


« الأخبار « تفتح ملف معاناة المرضى النفسيين وتناقش محاور الأزمة من المستشفيات الحكومية والمصحات الخاصة والمصحات غير المرخصة , وكذلك آراء الأطباء فى الأزمة والخبراء فى تحسين الثقافة المجتمعية.


بوابات عريضة تفصل بين عالمين مختلفين , عالم العقلاء وعالم المجانين , طريق طويل تكاد لا ترى آخره هو المسافة الفاصلة بين البوابات ومبانى المرضى , سكون مخيف يخيم على المكان يقطعه صريخ مرتفع , او قهقهة عالية وربما زغردة او نداء غير مفهوم , حدائق شهدت مآسى ودموعا وحكايات قد لا يعرفها غير أشجارها الذابلة , أناس زحف الكبر على ملامحهم وكسا الهم وجوههم ونال الزمن من عقولهم , لا تشعر بالخوف منهم قدر شعورك بالشفقة على هؤلاء الذين لم يتحملوا شر الحياة فخفت عقولهم وانزووا خلف القضبان يشاهدون البشر من ورائها.
إنه مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية او كما يطلق عليه الكثيرون خطأ «مستشفى المجانين» يتسم هذا المستشفى برهبة خاصة قد لا تجدها فى اى مستشفى آخر , فهو ذو طبيعة متفردة ومختلفة وربما مخيفة للبعض بالإضافة لكونه اكبر واقدم مستشفى لعلاج الأمراض العقلية والعصبية فى مصر بدأنا جولتنا داخل المستشفى بعد ان انتهينا من كافة الإجراءات المطلوبة لأداء زيارة إعلامية رسمية دون إحداث اى ضرر لأى من المرضى كانت وحدة الطب النفسى المجتمعى هى اول ما صادفنا لدى زيارتنا إلى المستشفى, وهى وحدة خاصة بالكشف على المرضى تشبه العيادات الخارجية فى طبيعة عملها يتواجد بها فريق طبى يقوم بالكشف على الزائرين ومن ثم تشخيص الحالة وتحديد الأدوية اللازمة إن استدعى الأمر وتقدم هذه الخدمة بالمجان كوسيلة للحد من انتشار الأمراض النفسية وكذلك التشخيص المبكر الذى يساهم بشكل كبير فى الشفاء قبل تدهور الحالة وتمكن المرض , كما تشمل هذه الوحدة ايضا علاج الإدمان الذى يتلازم بشكل كبير مع المرض النفسى إما كدافع او كنتيجة بالإضافة لتخصيص ايام لعلاج المراهقين هذه الخدمة التى يقدمها مستشفى العباسية لا يعرفها سوى القليلين الذين يترددون على المستشفى انتقالا إلى الغرف الترفيهية للمرضى فقد حرص المستشفى على التنوع فى المناطق الترفيهية المقدمة للمرضى ما بين غرفة الرسم , والحياكة والمسرح الغنائى والعروض المسرحية بالإضافة لمكتبة بسيطة تضم العديد من انواع الكتب التى اشرف اطباء متخصصون على اختيارها بحيث لا تؤثر سلبا على حالة المرضى , اما عن الحديقة التى قد يزورها بعض المرضى الذين تسمح حالتهم بذلك , فقد شكت اشجارها الذبول قد ينتابك الشعور بأنها تشبه ساكنيها ربما لأنها الأقرب لهم , اما عن المبانى فقد كان بعضها متهالكا وبعضها فى حالة جيدة حسب عمرها بعد ان انتهينا من جولتنا التقينا ببعض المرضى الذين سمحت حالتهم بالحديث حسب قرار معالجيهم.
فكانت اولهم (ع ,م) والتى هرولت ناحيتنا تحتضنا ببراءة طفولية نقية كأنها تعرفنا منذ سنوات طويلة , بدأت تتحدث عن نفسها قائلة : لا اتذكر متى دخلت إلى هذا المستشفى فقد بدأت مأساتى منذ الطفولة , كنت مفرطة الحساسية منذ صغرى , أتأثر بأقل الكلمات , اما بالفرح الشديد او الحزن الشديد , احب والدى بشدة وأعشق اخوتى , اتعلق بأى شيء يدخل حياتى , حتى دمياتى الصغيرة , وكانت ابنة جيراننا دائما ما تتعمد مضايقتى وتسببت لى فى الأذى وكنت دائما ما أتحمل اذاها رغم انه يؤثر فى تأثيرا عميقا , حتى طفح بى الكيل يوما وانهلت عليها ضربا وانا اصرخ حتى مزقت اصابعها وبعض اجزاء جسدها دون ان اشعر بنفسى , ومنذ ذلك الحين وانا لا اعلم ماذا اصابنى فقد حجزت فى الأحداث وهو ما كان له ابلغ الاثر فيما انا عليه الآن فبعد دخولى الأحداث لم أتحمل ما حدث لى اصبت بنوبات هلع وبعدها هلاوس فتم حجزى فى هذا المستشفى ولم اخرج بعدها مضيفة: اننى احب هذا المستشفى واحب كل الناس حتى صديقتى سلمى التى تمزق ثيابى وتوقظنى بصراخها أحبها جدا ولكنى اريد ان اعود لبيتنا واعيش مع اخوتى واولادهم فهنا لا استطيع ان افعل ما اريد او آكل ما اريد وكل شيء بحساب.
حادث طفولي
وبنفس البراءة والنقاء حدثتنا (س, ع ) عن رحلتها مع المرض النفسى قائلة: تعرضت لحادث فى طفولتى كان نتيجته ان اظل أعانى من المرض النفسى طوال عمرى فليت البشر يعلمون ان بين العقل والجنون شعرة تتمثل فى الضغط على نفسيته وتحميله ما يفوق طاقته , ولذلك فالله لا يحمل احدا فوق طاقته , ولكن البشر يهلكون بعضهم , كنت طفلة لا أتجاوز العشر سنوات ونشأت فى بيئة ريفية جدا كانت حياتنا بأكملها بين الحقل والمواشى , وذات ليلة تشاجر عمى مع ابى وكنت فى هذا المساء اسهر معه هو وابنائه لحراسة الحقل , فألقى بى ليلا فى « الترعة « وظللت أقاوم الموت واحاول الخروج ويقذف بى ثانية , لا أتذكر من هذه الليلة سوى مشهد الظلام الدامس وصوت الضفادع الليلية وتساقط المياه ولا اتذكر من الليلة التى تلتها سوى شروق الشمس وزحام المنقذين , وبالرغم من كونى تلقيت علاجا من الصرع والفصام بعد عدة سنوات واستطعت ان أتزوج وانجب ابناء , إلا اننى لم اتخلص نهائيا من المرض ومازال اثر هذا الحادث مسيطرا على عقلى يصيبنى بنوبات الصرع من وقت لآخر وتزداد حالتى سوءا مع اى ضغط أتعرض له.
لقراءة التحقيق كاملا طالع عدد الأخبار 12 أكتوبر..