حكايات| جيش المصريين القدماء.. انضباط وتكتيكات عسكرية ومعاملة كريمة للأسرى

جيش المصريين القدماء حقق انتصارات كبيرة
جيش المصريين القدماء حقق انتصارات كبيرة

ربما كان للمصريين أطول سجل معروف في الحرب والقتال، إذ لم تكف مصر القديمة عن المعارك.. فقد أدرك المصري القديم أن الجيوش في حياة الأمم هي سندها ومصدر أمنها والسياج الذي يحميها في حربها وسلمها، ومنذ عصور ما قبل التاريخ والإنسان المصري يتخذ كل الوسائل للدفاع عن نفسه. 


«إننا كمواطنين جهلة جدًا بمصر، إن أقل مَن يعرف عن مصر هم المصريون».. بهذه الجملة بدأ العالم الكبير جمال حمدان سلسلة كتبه الشهيرة «شخصية مصر» التي رصد فيها تاريخ الإنسان المصري وحضارته الممتدة منذ ألاف السنين، ليقول إننا كأصحاب البلد نعرف أن الجيش حمى الدولة في العصر الحديث دون أن ندرك جيدا، أن هذا الدور قام به جنود مصر منذ آلاف السنين.

 

ويحكي مجدي شاكر، كبير الأثريين بوزارة الآثار، تاريخ فصل في حياة العسكرية المصرية وهي مرحلة التأسيس الأولى في مصر القديمة لأول جيش نظامي في تاريخ البشرية. 


تاريخ جيش الدولة القديمة

 

المعجزات التي يصنعها الجيش المصري، ليست صنيعة اللحظة بل ترجع إلى ما هو أكثر من 5200 عام، حين أسس  أول جيش نظامي عرفته البشرية، وذلك بعد توحيد الملك «مينا»، لمصر بإقليمها الشمالي والجنوبي عام 3200 ق م، فقد أصبح لمصر جيشا موحدًا تحت إمرة ملك مصر الذي أصبح أقوي جيوش العالم القديم، وبفضلة أنشأت مصر أول إمبراطورية في العالم في عصر الدولة الحديثة امتدت من تركيا شمالًا إلى الصومال جنوبا ومن العراق شرقا حتى ليبيا غربًا.

 

في عصر الدولة القديمة 2686- 2181 ق.م، ابتداءً من عصر بناء الأهرامات كان المصريون مجندين إجباريا في بناء وتشييد المباني موسميا أيام الفيضان والأغنياء كانوا يدفعون البدل لإعفائهم، وكان تسليح الجنود في الدولة القديمة بدائيا، فقد كان عبارة عن هراوات وعصي مثبته في أعلاها حجارة، بالإضافة استعمالهم الخناجر والحراب المصنوعة من النحاس.

وفي بداية الدولة الوسطى تمتع حكام الأقاليم بنوع من الاستقلال، ولذلك كان لكل إقليم قوات تشبه الجيش في الإعداد والنظام والأسلحة، بالإضافة للفرق الخاصة بحماية الملك ذاته، وكذلك حماية البعثات التجارية، وبعثات المحاجر والمناجم، لكن بعدما نجح الملك «سنوسرت الثالث» في القضاء على نفوذ حكام الأقاليم بدأ في تكوين جيش قومي ثابت.

 

كان احتلال الهكسوس لمصر واستقرارهم أكثر من أكبر الأثر في تطور العسكرية المصرية، فقد استطاع المصريون الاستفادة من تقنيات الهكسوس وتطويرها لخدمة جيشهم فأدخلوا القوس المركب الذي كان مداه أبعد من القوس المصري، وأدخلوا الحصان والعربة الحربية، وأدخل الهكسوس الدروع التي لم تكن معروفة يعرفونها من قبل لحماية الجسم والرأس، فادخلوا القلنسوة فوق الجمجمة والخوذات المعدنية فوق الرأس، أما في عصر الدولة الحديثة تغيرت العقيدة القتالية المصرية من الدفاع إلي الهجوم, وذلك لخلق عمق استراتيجي لمصر في الدول المجاورة، وتامين حدود مصر من خلال مهاجمة الدول الطامعة في احتلال مصر فأصبح لمصر جيشا نظاميا محترفا مدربا ومتطورا جعله يقيم أول إمبراطورية في العالم . 

 

تكوين الجيش 

 

تكون الجيش المصري من فرق قتالية مدربة منظمة، وكان النظام العسكري في الميدان صارما يقوم على طاعة الأوامر العسكرية لقائد الفرقة، ويتألف الجيش من قسمين هما «المشاة»، و«راكبو العربات»، والقسم الأخير أكثر ميزة من القسم الأول، ويُعطي ضباطه درجة كُتاب ملكيين.
وتقوم العربات بالهجوم الضخم أو بمساعدة المشاة في مجموعات صغيرة العدد تتكون من 200 رجل تحت إمرة حامل اللواء، وتنقسم الفرقة إلى أربعة أقسام بكل قسم 50 رجلاً، وكانت أعلامهم عبارة عن صور مثبتة في أطراف سيقان من الخشب، و كانت فرق الحرس تقسم إلى صفوف كل منها عشرة رجال وتسير في طوابير منتظمة، وفي عصر الفتوحات العظمى  كان الملك يقوم بقيادة العمليات الحربية بنفسه، وأحيانا كان يشترك في مجلس الحرب، أو يسند القيادة العليا للجيش إلى قائد عظيم، وكانت هناك مناطق عسكرية يشرف عليها ضباط مسئولون.

 

طرق التجنيد في مصر القديمة

 

كان التجنيد في الجيش المصري  يتم عن طريق كاتب الجيش؛ كما كان ولي العهد يتدخل ليختار للفرق الخاصة بحماية الفرعون رجلا من بين كل مائة، كما كان نظام التجنيد وراثياً حيث يفضل أبناء المجندين كجنود دون سواهم.

 

وكان رجال التجنيد يجوبون المدن والقرى لجمع المجندين وتسجيل الشبان الأقوياء ولم يسبق إصابتهم الدور بعد، وهؤلاء كان يجمعهم عمدة القرية أو المدينة لمقر حاكم الإقليم ليختار منهم خيرتهم، والباقون كانوا يردون لقراهم، وبهذه الطريقة تعد ميزة عدم اعتماد الجيش المصري علي المرتزقة الأجانب واعتماده علي الاستدعاء والخدمة الإلزامية أثناء الحرب من أسباب قوة وتماسك الجيش المصري. 

 

كان للجنود تدريبات منتظمة تستهدف تنظيم الخطوة، ومشية الصف، وكان الجندي يسير تلو زميله في دوريات محددة، ويعاون نافخ البوق أو ضارب الطبل في تنظيم تقدم الجنود، وهي فرقة الموسيقى العسكرية، كما اهتمت تدريبات الجيش بالجري والسباق والمصارعة؛ وشارك أبناء الملوك في التدريبات العسكرية مثل الرماية و الفروسية.

 

 

رُتب الجيش المصري قديمًا

كان الملك هو القائد الأعلى للجيش، بينما القواد يقومون بالقيادة نيابة عنه، وهم من حملوا لقب أمير الجيش ومن بين ألقاب قادة الجيش هناك لقب «قائد الجيش»، و«قائد الصدام»، و«قائد الجنود الجدد»، كما كان الملك يكلف ولي العهد بالنيابة عنه أحيانا.

 

وكان الوزير يتولى مهمة وزير الحرب، وكان هناك وظيفة «كاتب الجيش» وقت الحرب، وهو من يقوم بأعمال التجنيد والإمداد، وحفظ سجلات المعارك الحربية، وكان عددهم كثير ومختلفة الرتب، وكان يرأس مجموعة الكتبة «رئيس كتاب الجيش»، و«الكاتب الملكي»، بالإضافة إلى لقب «كاتم أسرار الملك»، ويكون حامل هذا اللقب على دراية بمجريات الأمور في القصر و الجيش.

 

وتعد كلمات القائد العسكري «وني» وافتخاره بأفراد جيشه «لم يشاجر أحد منهم غيره، ولم ينهب أحد منهم عجينة للخبز من متجول، ولم يأخذ أحد منهم خبز أي مدينة، ولم بتسول أحد منهم من أي شخص" أقدم وثيقة تاريخية عن أخلاقيات الجيش المصري وعقيدته في احترام المدنيين والحفاظ على ممتلكاتهم في أوقات الحروب.

 

معاملة الأسـرى

 

إن من بين دلالات تحضر الجيوش قديمًا وحديثًا، أسلوب تعاملها مع أسرى الحرب، فالجيش القوي في حربه يكون قويًا في سلمه في جوانب عدة، من بينها ضبـط النفس عند التعامل مع الأسرى العزل من السلاح، وهكذا كانت شيمة الجيش المصري التي هي امتداد للطبيعة السمحة للإنسان المصري بوجه عام.

 

وبنظرة فاحصة للنصوص العسـكرية المسجلة على جدران المعابد وعلى غيرها من الآثار، سيتضح لنا أن من بين المبادئ الراسخة في تقاليد الجيش المصري مبدأ حسن معاملة الأسير.. وإن بدا الأسرى مقيدين بالأربطة في بعض المناظر، فذلك كان بقصد التعبير عن دلالة الحدث.

 

وعلى امتداد فترة العسكرية المصرية في الدولة الحديثة «عصر الإمبراطورية» لم نسمع إلا عن حادثين أسـيء فيهما معاملة الأسرى في عهد كل من الملكين «تحتـمس الأول» و«أمنحتـﭖ الثاني».. من ملوك الأسرة الثامنة عشرة، إن ذكـر هاتين الحادثتين لأبرز دليل على أن المصـري القديم كان أمينًا في تسجيل ما كان يجري في حياته المدنية والعسـكرية من أحداث، وكان بوسعه أن يتجاهل هاتين الحادثتين، لكن لأنهما تمثلان خروجا على التقاليد العسكرية والإنسانية المصرية فقد رأى ضرورة الإشارة إليهما، ربما تعبيرًا عن رفض هذا المنهج في التعامل مع الأسرى.

 

ويتضح ذلك في الأسرة السادسة على سبيل المثال.. عندما بعث الملك «ببي الأول» بحملة عسكرية ربما إلى فلسطين بقيادة «وني» الذي سجل على جدران مقبرته في «أبيدوس» أخبار هذه الحملة ، نراه يقول: «حارب جلالته سكان الرمال الآسيويين، وقد حشد جيشًا مؤلفًا من عشرات الآلاف من الجند».

 

ويستمر النص تعبيرًا عن السلوك المتحضر للجيش المصري، فيذكر، ( لم يشاجر أحد منهم غيره، ولم ينهب أحد منهم عجينة الخبز من متجول، ولم يأخذ أحد منهم خبز أية مدينة، ولم يستول أحد منهم من أي شخص على عنزة واحدة )..