عمر المختار .. شيخ الشهداء الذي حرر إعدامه بلاده من احتلال الطليان

عمر المختار
عمر المختار

في خضم الحرية والحفاظ على الأرض، يتساقط الرجال كأوراق الخريف لكن أسماءهم تخفق مع تساقط أجسادهم، وتبقى خالدةً رغم فناء عمرهم، ويبقى ذكرى هؤلاء مستحضرةً على مر العصور، يتحاكى الجميع عن كيفما قاتلوا بشجاعةٍ، وكيفما صمدوا كالرجال.

في يومٍ ما وقف رجلٌ على منصة الإعدام لا يبالي بجلاديه، نطق الشهادتين، ودعا باسمك اللهم ثم استشهد، لتنطلق معها حناجر أمة بأكملها زائرةً في وجه الاحتلال، وتبدأ قصة شعبٍ نال الاستقلال من بعده.

أراد أن يموت واقفًا بدلًا من أن يحيا راكعًا، فكان له ما أراد في مثل هذا اليوم قبل 87 عامًا، ليرتقي شيخ المجاهدين، الذي كان قد بلغ من عمره 73 عامًا، شهيدًا، ولتبدأ من بعده ثورة ليبيا نحو الاستقلال عن إيطاليا.

إنه عمر المختار، الذي قاوم الاحتلال الإيطالي قرابة عقدين من الزمن، فلم يمنعه تقدمه في العمر من النضال من أجل حرية وطنه، وطرد المحتل الإيطالي، الذي وطأت أقدامه عنوةً الأراضي الليبية بدءًا من عام 1911.

ومن ذلك التاريخ بدأ المختار في مقاومته المسلحة وسط مجموعة من المجاهدين كان يقودهم نحو غايةٍ واحدةٍ "النصر أو الشهادة"، وحلمٍ واحدٍ هو طرد المحتل من أرض بلادهم، وظل المختار مرابطًا في كل أرجاء ليبيا إلى أن وقع في الأسر في سبتمبر عام 1931.

إعدام عمر المختار

وحينما عزمت الحكومة الإيطالية إعدام الرجل الهرم، الذي طعن في عامه الثالث بعد السبعين، بعد محاكمةٍ صوريةٍ لم تدم إلا ساعات، أفضت في النهاية للحكم عليه بالإعدام شنقًا، كانت إيطاليا تهدف من تلك الخطوة إضعاف روح المقاومة عند الليبيين،

وبين اعتقاله وإعدامه مرورًا بمحاكمته في برقة خمس أيامٍ فقط لا غير، فقد اُعتقل في مدينة البيضاء يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 1931، وتم تنفيذ حكم الإعدام فيه يوم السادس عشر من الشهر ذاته، في مشهدٍ لم يحدث في التاريخ المعاصر إلا فيما بعد عام 1989 في رومانيا مع الديكتاتور شاوسيسكو، الذي أُلقي القبض عليه يوم الرابع والعشرين من ديسمبر من هذا العام، والحكم عليه وعلى زوجته بالإعدام في اليوم الموالي، وتنفيذ الحكم في ذات اليوم.

مشهد إعدام المختار كان تاريخيًا ومهيبًا، كان يوم أربعاء، جُمع نحو 20 ألف من الأهالي والمعتقلين، ليشاهدوا قائدهم الذي قاوم الاحتلال، وهو ينفذ فيه حكم الإعدام، ليكون رادعًا لهم، وتثبيطًا لهؤلاء الشجعان المحاربين من أجل استقلال وطنهم.

لكن مساعي إيطاليا باءت بالفشل، فكان مشهد إعدام عمر المختار بمثابة الشرارة التي أوقدت اللهيب في نفوس الليبيين، الذي ثاروا بضراوةٍ ضد المحتل حتى نالوا استقلال وطنهم في السابع من أبريل عام 1943، وقتما كانت القوات الإيطالية تواجه ضربات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

شاهدٌ من أهلها

كلماتٌ ستبقى خالدة من إعدام عمر المختار، تلك التي قالها محاميه الإيطالي المنتدب للدفاع عنه، كان يُدعى روبرتو لونتانو، حينما قال أمام المحكمة "الصورية" في مرافعته التي لا طائل منها للدفاع عن المختار، " إنَّ هذا المُتهم الذي انتدبت للدفاع عنه، إنما يُدافع عن حقيقة كلنا نعرفها، وهي الوطن الذي طالما ضحينا نحن في سبيل تحريره، إن هذا الرجل هو ابن لهذه الأرض قبل أن تطأها أقدامكم، وهو يعتبر كل من احتلها عنوة عدوًا له، ومن حقه أن يُقاومه بكل ما يملك من قوةٍ، حتى يُخرجه منها أو يهلك دونها، إن هذا حق منحته إياه الطبيعة والإنسانية، إن العدالة الحقة لا تخضع للغوغاء وإني آمل أن تحذروا حكم التاريخ، فهو لا يرحم، إن عجلته تدور وتسجل ما يحدث في هذا العالم المضطرب".

رحل عمر المختار قبل 86 عامًا، لكنه لا يزال حيًّا في قلوب الليبيين وكل العرب، يقر بعظمته عدوه قبل حبيبه، فهو باقٍ كأسطورة رجلٍ محاربٍ إلى ما شاء الله، وكما قال الشاعر أبو القاسم الشابي "وتبقى الغصون التي حملت ذخيرة عمرٍ جميلٍ عبرٍ"، فكان اسم عمر المختار غصنًا ثابتًا في تلك الغصون.