رواية اسمها "أولاد حارتنا" وبطلها نجيب محفوظ

صورة لغلاف الرواية
صورة لغلاف الرواية

أستطاع الكاتب الصحفي محمد شعير في كتابه الأحدث "أولاد حارتنا –السيرة المحرمة" الصادر عن دار العين للنشر ، أن يصنع عمل توثيقى ليسجل الحكايات الثلاثة المصرية التي كان أبطالها الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ وروايته "أولاد حارتنا".


الحكاية الأولى هي ميلاد رواية "أولاد حارتنا" بتاريخ 21 سبتمبر 1959، ويعتبر العمل الإبداعي الذي أعاد نجيب إلى الساحة الأدبية بعد غياب سبع  سنوات، وكانت أخر أعماله الثلاثية، ونشرت الرواية فى صحيفة الأهرام في وقت كان الإعلام وخطباء المساجد يقومون بحملة ضد الشباب الذين يقلدون النجم الأمريكي الراحل جيمس دين الذي أصبح إيقونة من خلال فيلمه "متمرد بلا قضية".


وتتهمهم بالتمرد على جيل الإباء، وفى ذلك الوقت كان يعرض فيلم "بين السما والأرض" من إخراج صلاح أبو سيف وكتب السيناريو نجيب  الذى يمثل نقله فى سينما محفوظ من الواقعية وإلى الانفتاح على الرمز، والخروج من السينما التقليدية حيث تطرح أسئلة فلسفية فى ذهن أبطال الفيلم المحبوسين داخل المصعد المعلق بين السماء والأرض.


قبل يوم من نشر الحلقة الأولى في جريدة الأهرام، كان الرئيس جمال عبد الناصر "يسلم جوائز الفائزين فى مسابقة "فى  سبيل الحرية"، القصة التي بدأ كتابتها ناصر أثناء دراسته الثانوية، عن معركة رشيد، ولكنه لم يستكملها، وقام المجلس الأعلى للفنون والآداب بتنظيم مسابقة لاستكمالها، شاركت فيها 341 قصة، وعقدت لجنة النشر بالمجلس الأعلى  14 اجتماعا لاختيار الفائزين الثلاثة: المقدم أركان حرب عبد الرحيم حجاج والكاتبين: عبد الرحمن فهمى، وفاروق حلمي. 


وكان يوسف السباعي السكرتير العام للمجلس قد شكا فى مقال له بعنوان : "كيف أكملت قصة الرئيس؟" من امتناع الكتاب الكبار عن الاشتراك فى المسابقة ، لذلك جاء المستوى ضعيفا. وقد احتفت الصحافة بنص حجاج رغم أنه الأضعف فنيا، ربما لكونه ضابطا ولأنه استخدم شخصية عبد الناصر فى الرواية، وربما أيضا لإشادة كمال الدين حسين وزير الإدارة المحلية ورئيس المجلس الأعلى للفنون والآداب وقتها بالنص"". 


وقبل شهور على نشر أولاد حارتنا مسلسلة "أحدث تصريح لوزير الثقافة والإرشاد القومى  صلاح بيطار دويا شديدا فى الاوساط الادبية، إذا قال الوزير أن أدبنا لا يعبر تعبيرا كافيا عن آمال العرب القومية، صحيفة الجمهورية واجهت الأدباء بما قاله الوزير، فعقب نجيب محفوظ: إن حركة إحياء التراث العربى، ودراسته دراسة منهجية جديدة كما صنع طه حسين والعقاد وغيرهما عمل اعمال من أعمال الفكر القومى.


كما أن الأدب ليس ضد الوحدة فهو معها" من خلال هذين الحدثين، كان نجيب يريد أن يتمرد على "الواقعية صريحة" التى بلغت ذورتها فى "الثلاثية"، ويكتشف آفاق جديدة فى عالم الكتابة من خلال روايته "أولاد حارتنا" حيث كان يرى أن المجتمع المصرى قد تغير، ويحتاج ألى كتابة إبداعية جديدة لأن أصبح "عصر ما قبل الثورة أصبح جثة هامدة ولم يعد هدفا للكتابة أو أن "الرواية التى يكتبها كانت تتبع شكلا تقليديا وهى تلائم المجتمع الثابت ولمستقر واضح المعالم وهى لا تصلح لمجتمع ملئ بالتغيرات والتحولات"، ويقول عن تغير رؤيته عن الكتابة: هذا ليس نتيجو التفكير الفنى، ولكنه نتيجو تغيير الشخص نفسه، كنت فى الماضى أتم بالناس وبالأشياء ولكن الأشياء فقدت أهميتها بالنسبة لى، وحلت محلها الأفكار والمعانى وأظن هذا تطورا طبيعيا بالنسبة لسن الكاتب، أصبحت أهتم اليوم بما وراء الواقع.

ويبدو كل تمرد له عواقبه حيث بدأت من مؤسسة الأهرام حين أدرك الكاتب الصحفى الراحل محمد حسنين هيكل رئيس تحرير صحيفة الأهرام  رسالة الرواية وخطورتها حيث تحمل اسقاط دينى يحكى قصصا مستوحاة من سير الأنبياء فقرر نشرها بشكل يومى، "ويقول هيكل: وبعد نشر الحلقة السابعة عشر بدأت شكاوى ومطالبات الأزهر  لوقف النشر الباقى منها، كل هذا وصل بالطبع لعبد الناصر فسأل هيكل "أيه الحكاية؟".

فشرح هيكل له ما حدث، وأصر أن رواية نجيب أن تنشر حتى أخر سطر. ووافق عبد الناصر. "وقد جاء قرار اللجنة بمنع النشر، وكا ذلك قبل عشرة أيام من أنتهاء الرواية، لكن أستمر النشر حتى نهاية الرواية وقد حرص هيكل على أن يختم الحلقة الأخيرة بعبارة (انتهت الرواية)".   

لم  يكن الهجوم على الرواية من الشيوخ فقط بل شارك بعض المثقفين فى وقت نشر أولاد حارتنا على حلقات، حيث هاجم قارئ يدعى " محمد أمين"  فى رسالة أرسلها الى الشاعر صالح جودت فى مجلة المصور بتاريخ 18 ديسمبر 1959ويقول: جاء محفوظ ليتحدى المعتقدات الراسخة ولهذا يعتذر على كائن من كان حتى ولو محفوظ نفسه أن يقدمها بمجرد كتابة قصة. التستر وراء الرموز أضعف قضية  نجيب محفوظ  فى مجتمع يجل الدين بطبيعته".

لم يكن نجيب وحد متهم بإثارة الجدل من خلال روايته مثل الأديب الراحل فتحى غانم الذى هاجمه كمال الدين حسين رئيس مجلس الأعلى للفنون والآداب  فى ذلك الوقت بسبب وصف علاقة بين رجل وإمرأة متزوجة فى رواية "الساخن والبارد" لغانم، وكذلك استاء عبد الناصر من مجموعة قصصية "البنات والصيف" لاحسان عبد القدوس، وكان يرى النصوص تدعو الى الانحلال. 

وطالب الازهر بعدم طبع رواية "أولاد حارتنا" فى مصر، فقرر نجيب نشرها فى لبنان وقال فى حوارته الصحفية: لا أكتب إلا إذا حدث انفصام بينى وبين المجتمع، أى إذا حدث عندى نوع من القلق وعدم الرضا، بدأت أشعر أن الثورة أعطتنى الراحة والهدوء بدأت تنحرف وتظهر عيوبها، بدأت تناقضات كثيرة تهز النفس، وخاصة من خلال عمليات الأرهاب والتعذيب والسجن، ومن هنا بدأت كتابة روايتى الكبيرة "أولاد حارتنا والتى تصور الصراع بين الأنبياء والفتوات. كنت أسأل رجال الثورة هل تريدون السير فى طريق الأنبياء أم الفتوات؟.

فى الحكاية الثانية تظهر "أولاد حارتنا" لتكون رمزا لسؤال كيف ينظر الشيوخ والجماعات المحظورة إلى الفكر والإبداع الذى يتناول موضعات دينية؟، وتبدأ القصة بعد عام من حصول نجيب على نوبل، ويصدر "الخمينى فتوى بأهدار دم الروائي سلمان رشدى بسبب روايته "آيات شيطانية". فى التوقيت ذاته سئل عمر عبد الرحمن مفتلى الجماعة الإسلامية فى صحيفة "الأنباء الكويتية" عن رأية في رواية رشدى فأجاب: لو حكم بالقتل نفذ فى نجيب محفوظ حين كتب "أولاد حارتنا" لكان ذلك بمثابة درس بليغ لسلمان رشدى وكرر إجابته تلك فى العديد من الصحف وفى خطبته للجمعة، بصيغ أخرى: لو قتلنا محفوظ من 30 سنة مكنش طلع سلمان رشدى.

بعد خمس سنوات من تصريحات عمر عبد الرحمن بتاريخ 14 أكتوبر 1994، حاول محمد ناجى المنتمى إالى الجماعة الإسلامية المحظورة قتل نجيب لكنه أصابه في رقبته، ويتم القبض على ناجى، ويتم التحقيق معه ويسألوا هل قرأت الرواية؟، وكانت إجابته : لم اقرأ الرواية لكن تكليفا صدر إلينا بقتل مؤلفها بعد قيام الجماعة باغتيال فرج فودة. "فى التوقيت ذاته كان الدكتور نصر حامد أبو زيد يدور فى أروقة المحاكم فى القضية التى بدأت قبل شهور، عندما تقدم فى مارس 1993 للترقى فى جامعة القاهرة بثلاثة أبحاث عن الأمام الشافعى، والخطابات النقدية الجديدة لتحليل النصوص الدينية، وقامت الدنيا ضده. رأى بعض أساتذة الجامعة على رأسهم عبد الصبور شاهين أن طرد أبو زيد من الجامعة بمثابة "انحسار العلمانية فى الجامعة". من هنا سارع عبد الصبور شاهين إلى كتابة تقرير ساخن يلافض الترقية، ويتهم أبو زيد بالكفر. بدأ يهاجمة فى خطب الجمعة واكتملت الدائرة المرعبة بدعوى التفريق بينه وبين زوجته وزميلته ابتهال يونس أستاذة الأدب الفرنسي فى جامعة القاهرة باعتبارها مسلمة وهو مرتد"

وتظهر رواية "أولاد حارتنا" على هيئة شبح فى  الحكاية الثالثة التى تحكى عن صراع الإبداع المصرى مع الدولة فى حق حرية النشر،  وتبدأ القصة قبل شهور من محاولة أغتياله بتاريخ 10 فبراير1994 حيث أصدرت "الجمعية العمومية برئاسة طارق البشرى فتوى تؤكد أن الأزهر الشريف وحده صاحب الرأى الملزم لوزارة الثقافة فى تقدير الشأن الأسلامى للترخيص أو رفض الترخيص للأعمال الفنية وامصنفات السمعية والبصرية التى تتناول قضايا إسلامية أو تتعارض مع الإسلام ومنعها من الطبع والتسجيل أو النشر والتوزيع والتداول".

بعد شهور على هذا القرار يبدو "أن الجهات الرقابية لم تكن تحتاج إلى فتاوى قانونية، إذ كانت تمارس دورها بفجاجة وثقة بعد أن تقدم أحد أعضاء البرالمان المصرى جلال غريب باستجواب لوزير الثقافة محتجا على نشر مجلة "إبداع" لوحة للفنان النمساوى جوستاف كليمنت بعنوان "آدم وحواء"  ، وأحتج على إقامة مهرجن للمسرح التجريبى، و على وجود أوكسترا فى أوبرا القاهرة بأعتباره لا لزوم له فى بلد الأزهر، وبعد ساعات من الاستجواب كانت لجنة من الرقابة الإدارية تتوجه وبصحبتها قائمة من الأعمال الإبداعية مثل: "وش الفجر" ليوسف أبو رية "آية جيم" لحسن طلب و"وردة القيظ" لفريد أبو سعده، "العراه" لابراهيم عيسى، "أنا بهاء الجسد" لمحمد آدم، "مخلوقات الأشواق الطائرة" لإدوار الخراط، "بستان الأزبكية" لمحمد عبد السلام العمرى، "خطط الغيطانى" و"وقائع حارة الزعفرانى" لجمال الغيطانى، "قٌصة الأطفال" لمختار السويفى.

وجهت اللجنة أسئلة لمسؤولى الهيئة حول ظروف طبع هذه الأعمال، وكيف تم أختيارها، ثم أخذت عينات من الكتب المصادرة، وأصدرت توجيهات بمنع التصرف فى نسخ تلك الكتب الموجودة فى مكتبات ومخازن الهيئة، ثم أحالت اللجنة الأعمال المضبوطة إلى الأزهر لابداء رأيه فيها، فى التوقيت ذاته كانت رقابة عمال الهيئة العامة للكتاب قد تكرست، إذا رفض عمال المطابع فى هيئة الكتاب "صف" قصة للكاتبة نعمات البحيرى كان مقرر نشرها فى مجلة إبداع لأنها – من وجهة نظرهم- قصة جنسية وقال احدهم لرئيس تجرير المجلة أحمد عبد المعطى حجازى : أنا عندى أوامر من رئيس الهيئة سمير سرحان القصة لا تعجبنى أبلغ عنها"

فى هذا الكتاب، يجعلنا شعير أن نطرح عدد من الأسئلة على أنفسنا وهى لماذا الصحف القومية توقفت عن نشر روايات مسلسلة على عديد حلقات؟، وما مصير رسومات الفنان حسين فوزى المصاحبة لرواية "أولاد حارتنا" أثناء نشرها فى صحيفة الأهرام؟، وكذلك رسومات الفنانين عبد الغنى أبو العنين وجودة خليفة التى وضعتها جريدة الأهالى حين نشرت رواية "أولاد حارتنا" كاملة فى عدد واحد بتاريه 30 أكتوبر 1994؟. وذكر شعير أن مجمع اللغة العربية والجامعات المصرية و مجلس الأعلى للفنون والآداب ومعهد الدرسات العربية لجامعة أستوكهولم التى كانت ترشح الأدباء المصريين الى جائزة نوبل لكن هذا كان منذ خمسون عاما أو أكثر، ويكون السؤال ما هى الجهات التى ترشح الأدباء المصريين لجائزة نوبل؟.

ويضيف شعير ملحق وثائقى فى كتابه حيث يعرض مقالات كتبها نجيب محفوظ مثل ("الرجوع إلى ميتوزيلا" لبرنارد شو) الذى تحدث عن مسرحية "العودة إلى المتوشولح"، يبدو هذا العمل قد ألهمه بفكرة رواية "أولاد حارتنا"، وكذلك نشر نص التحقيق مع نجيب محفوظ بعد محاولةأغتياله. ويقوم شعير نشر تقارير مجمع البحوث الإسلامية ضد "أولاد حارتنا"الذى يتهموا نجيب بأنه يسئ لإله والانبياء حيث نكتشف أن كل آراء التقارير متشابه برغم فرق السنوات بينهم حين كتبوها، وهذا يكشف رؤيتهم المتحجرة الخالية من الإجتهاد.
يجعلنا شعير فى هذا الكتاب أن نسأل أنفسنا  هل جملة "العمل الفنى الذى أثار جدلا"  تحول المنتج الابداعى الى شخص يسير على أرض الواقع ويدخل فى مناقشات حادة؟، وهل تلك الجملة تمسخ العمل الإبداعى وتقلبه من نص عميق الى نص سطحى؟، وهل هذه الجملة تجعل العمل بطل يصارع الفكر الرجعى والنمط الإبداعى التقليدى