حوار| أستاذ طب نفسي يكشف أسباب «الجرائم الأسرية»

د. محمد المهدي خلال حواره للأخبار
د. محمد المهدي خلال حواره للأخبار

د. محمد المهدي أستاذ الطب النفسي لـ«الأخبار»: 


«الجرائم الأسرية» تحتاج للفحص النفسى


 وسائل التواصل الاجتماعى رسخت ثقافات غريبة وأحدثت حالة من الغربة بين الأسرة


تنقية البيئة من الزحام والعشوائيات والتلوث السمعى والبصرى والأخلاقى ضرورة حتمية


المخدرات شوهت الخريطة المخية وأدت لتصرفات شاذة وغير متوقعة 


مدمنو المخدرات يصابون بالشك المرضى فى زوجاتهم ونسب أبنائهم ويتصرفون باندفاعات انفعالية

 

بدم بارد يتخلص من طفليه بإلقائهما فى النيل..وآخر يضع السم لأبنائه الأربعة.. وثالث يعلق طفليه فى السقف ويضربهما فيموت أحدهما وينجو الآخر فى اللحظات الأخيرة ليحكى ما حدث ورابع  يقتل بناته الخمس وتنجو إحداهن ومهندس يقتل زوجته وابنه وابنته ببلطة وسكين خشية الفقر والاحتياج، وأم تقتل طفلها لأنه رآها فى أحضان عشيقها.

 

حوادث بشعة تجاوز فيها العنف السقف المتوقع فى السلوك الإنساني  داخل الأسرة.. فالأب والأم يتوقع منهما الحب لأبنائهما ورعايتهما وحمايتهما من أى خطر فهاهما يصبحان أكبر خطر يهددهم.

 

انفجار هذه الحوادث فى الأيام الأخيرة كان بمثابة زلزال يهدد الكيان الأسري إذ لا يتصور من العلاقة الوالدية فى حدودها الطبيعية أن تصل إلى قتل الابن أو البنت حيث ثمة عتبة من القسوة يجب الوصول إليها لتتجاوز كل عتبات الحب والرعاية الوالدية.

 

 فهل دخلت مصر فى نطاق القتل اللامعقول للأطفال والكبار داخل الأسرة الواحدة ؟


ولماذا أصبحنا اليوم نتحدث عن جحود وقسوة ووحشية الآباء والأمهات ؟


هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على د. محمد المهدى أستاذ الطب النفسى الشهير فماذا قال ؟

 

هل تابعتم  تلاحق جرائم قتل الأطفال مؤخرا ؟


- نعم..  ففى خلال 24 ساعة فقط فى  رابع أيام عيد الأضحى ـ وعقب الجريمة المروعة لأب ميت سلسيل الذى تخلص من طفليه بإلقائهما بالنيل ـ أصابتنى ثلاث جرائم قتل وتعذيب بالصدمة.. فهذا  أب عمره 40 سنة يضرب ابنته البالغة من العمر 13 سنة بمساعدة زوجته الثانية حتى لفظت أنفاسها الأخيرة ووضعاها فى جوال بمنور المنزل وتركاها حتى تعفنت وعللا ذلك بكثرة هروبها من المنزل.


وأب 38 عاما تركته زوجته لعدم قدرة الزوج على الإنفاق على الأسرة وذهبت لتعيش مع أسرتها وعندما فشل فى اعادتها ذبح طفله بدم بارد.


وهذا طفل عمره 5 سنوات ينقل للمستشفى فى حالة إعياء شديد وفى جسده آثار تعذيب وكى بالنار وإطفاء سجائر فى جسمه النحيل وقد تم هذا التعذيب على يد والدته 40 عاما وأخته 18 عاما وخطيب أخته لأنه  شاهد أخته وخطيبها فى أوضاع مخلة فخشوا أن يفشى هذا الأمر لوالده.
وسبب صدمتى من تلك الحوادث وغيرها أن القسوة فيها تجاه الأبناء تجاوزت كل منطق وكل مشاعر إنسانية.


غير مسبوقة


لكن مثل تلك الجرائم كانت موجودة على الدوام ؟


- بالتأكيد.. لكنها  لم تكن على هذا النحو.. فقد  زادت بصورة غير مسبوقة كما أن درجة القسوة بها لم تبلغ هذا الحد فى يوم من الأيام داخل الأسرة الواحدة وإذا كنا فى الماضى نتحدث عن عقوق الأبناء للآباء والأمهات  فنحن اليوم نتحدث عن جحود وقسوة ووحشية الآباء والأمهات
فأب يضرب ابنه بخرطوم الغسّالة حتى الموت وأم تقتل طفلها من أجل عشيقها ؟!


فقديما كنا نستبعد أن يكون الأب القاتل لأبنائه أو الأم القاتلة لأبنائها وإذا حدث هذا كنا نطالب بعرضهم على الفحص النفسى المتخصص. لأن دور الأب والأم هو تعهد أبنائهم بالتربية والرعاية وحمايتهم من أى خطر وسوء .


الأسرة المأزومة


وهل تكرار هذه الحوادث مؤخرا دليل  على وجود أزمة داخل الأسرة المصرية ؟


- انفجار هذا الكم من الحوادث المفجعة مؤخرا يوحى بأن ثمة زلزالا يهدد الكيان الأسرى فى مصر وأن الأسرة المصرية مأزومة بدرجة تدعو إلى القلق وأن حالة التأزم هذه تضع الوالدين (وخاصة الأب) على حافة العنف بل العنف المفرط فى القسوة.


ولكن هل هناك سبب واضح لهذا العنف الأسرى ؟


- من التبسيط المخل تفسير كل الحالات بناء على عامل واحد مهما تكن قوته  ولذلك من المنطقى أن نفكر بطريقة العوامل المتعددة والمتضافرة والتى تضع الأب أو الأم فى حالة إحباط أو غضب شديد يفجر فى داخله (أو داخلها) كما من العنف والقسوة يكفى لإزهاق روح أعز الناس عليه (أو عليها) بطرق بشعة.


وما أهم هذه الأسباب  على ضوء الحوادث الأخيرة ؟


- من أهم هذه الأسباب العامل الاقتصادى خاصة مع غلاء الأسعار الأمر الذي  يجعل الأبناء يشكلون عبئا يضع الآباء والأمهات فى حالة تناقض وجدانى بين محبتهم لأبنائهم ومعاناتهم من ضغوط رعايتهم التى تفوق قدراتهم على التكيف مع الظروف الصعبة.


كما أن الصعوبات الاقتصادية تجعل الأشخاص فى حالة توتر شديد وقابلية للانفجار فى أى لحظة  وهذا الانفجار يحدث تجاه الحلقة الأضعف وهى الأطفال.


 غياب التناغم داخل الأسرة


لكن هناك أسر ظروفها الاقتصادية أصعب كثيرا ورغم ذلك تحرص على  رعاية أبنائها وإحاطتهم بالرعاية والحنان؟


- نعم.. هذا يحدث بالقطع لكن ليس فى كل الأحوال كما أن العامل الاقتصادى لا يكون وحده السبب بل هو أحد الأسباب الضاغطة ويتزايد أثره مع اضطراب العلاقات داخل الأسرة.. فلم تعد الأسرة متناغمة ومتحابة كما كانت، فالزوجان فى خلافات وصراعات دائمة  وهما فى حالة طلاق عاطفى فى كثير من الأحيان ويكملان حياتهما الزوجية فقط بسبب وجود الأطفال بينهما.


وهنا يصبح وجود الأطفال سببا فى استمرار علاقة مرفوضة أو علاقة اضطرارية وهنا تظهر المشاعر السلبية تجاه الأطفال كسبب للمعاناة المستمرة  كما أن الروابط الوجدانية لم تعد قوية فى زمن انشغلت فيه الأم عن أبنائها بمتابعة وسائل التواصل الاجتماعى وانشغل الأب بالبحث عن الرزق ليل نهار ليغطى متطلبات الحياة المتزايدة وانشغل الأبناء بالجلوس على الإنترنت ليل نهار ولم تعد أعينهم ترتفع عن شاشة الموبايل أو اللاب توب أو الآى باد أو التاب أو الخروج مع أصحابهم ليل نهار. واضطرب الميزان التربوى حيث تدخلت وسائل الاتصال الحديثة فى ترسيخ ثقافات غريبة على النظام التربوى مما أحدث حالة من الغربة بين الآباء والأبناء.


وهل  تعاطى المخدرات له تأثير واضح فى تزايد مثل تلك الجرائم ؟


- بالقطع.. ليس مثل تلك النوعية فقط بل فى معظم أنواع الجرائم.. فالمخدرات بنوعيها التقليدية والتخليقية  أصبحت تنتشر بين الكثير من الناس بشكل وبائى أدى إلى تغيير فى المشاعر والانفعالات والأفكار  وشوهت الخريطة المخية بما يسمح بصدور تصرفات شاذة وغير متوقعة من البشر فى أحوالهم العادية.


فكثيرون ممن يتعاطون المخدرات يصابون بحالات من الشك المرضى فى زوجاتهم وفى نسب أبنائهم ويتصرفون باندفاعات انفعالية أشبه بالانفجارات الخارجة عن السيطرة.


وهناك سبب هام وهو إزاحة العنف نحو الحلقة الأضعف  بمعنى أن الأب مثلا يكون واقعا تحت ضغط رؤسائه فى العمل  أو ضغط زوجته أو ضغط الظروف الاقتصادية  أو ضغط العمل الشاق المتواصل  أو صراعات فى العلاقات.. كل هذا لا يجد منصرفا نحو المصدر الأصلى للضغط أو القهر وهنا يتم إزاحة مشاعر الإحباط والغضب والعنف نحو الحلقة الأضعف وهى الأطفال.


أب مجهد وأم مرهقة


وهل هناك أسباب أخرى تؤدي  لمثل تلك الجرائم؟


- هناك اضطرابات النوم وذلك بسبب ساعات العمل الطويلة للأب والأدوار المتعددة المرهقة للأم وقضاء أوقات طويلة على مواقع التواصل الاجتماعى أو التليفزيون لأوقات متأخرة من الليل وهكذا ترى كثيرا من الناس فى حالة إرهاق وتوتر شديدين بسبب قلة ساعات النوم  ويصبح الشخص فى هذه الحالة على حافة العنف فينفجر فى أى شخص يسبب له توترا.


بالإضافة للاضطرابات النفسية التى تصيب أفراد الأسرة مع ضعف الوعى بها وبإمكانية علاجها حتى تتفاقم وتصل إلى درجة تؤدى إلى اضطرابات فى الإدراك والتفكير والانفعالات تسهل عملية القتل وخاصة القتل اللامعقول أو اللامتوقع.


كما أن ضعف القدرات التربوية للأسرة  يضع الأب أو الأم فى أزمة حين لا يستطيعان السيطرة على سلوكيات الابن أو البنت فيشعران بالفشل والإحباط فينفجر العنف بداخلهما تجاهه (أو تجاهها) فيمارسان الضرب والتعذيب بديلا للتربية التى فشلا فيها.


بالإضافة لانتشار ثقافة العنف فى المجتمع عبر وسائل الإعلام ومن خلال الأعمال الدرامية المليئة بالقسوة والكراهية والعنف والتدمير.. مع الاستهانة بحقوق الطفل فى مثل هذه الأعمال.


المشكلات الزواجية 


وهل عجزت الأسرة المصرية عن حل خلافاتها بالطرق التقليدية للحفاظ على تماسكها؟


- بالفعل ضعفت  القدرة على حل الخلافات الأسرية  خاصة حين غابت الطرق القديمة  مثل الجلسات العرفية وتدخل الحكماء من الأهل أو الجيران وفى نفس الوقت لا تتوافر الوسائل الحديثة فى المجتمع مثل مكاتب وعيادات ومراكز الاستشارات وحل المشكلات الزواجية والأسرية.


علاوة على غياب أو ضعف المؤسسات الاجتماعية المعنية بأمر الأسرة وبتمكينها من أداء وظائفها تجاه أفرادها والوقوف بجانبها فى أوقات الصراعات أو الأزمات.. وساهم فى كل ذلك البيئة المصرية المضطربة بسبب الزحام والعشوائيات والتلوث السمعى والبصرى والأخلاقى  وبات تنقيتها ضرورة حتمية.


وما السبيل لعلاج هذا الخلل الأسرى وإعادة روح الوئام للأسرة المصرية ؟


- لابد من تفعيل برامج وسياسات الرعاية الاجتماعية للتخفيف من الأزمة الاقتصادية التى تعيشها الطبقات الفقيرة والمتوسطة.. وتفعيل دور  المؤسسات الاجتماعية التى ترعى شئون الأسرة ومنحها الإمكانات المادية والفنية الكفيلة بتمكينها من أداء دورها فى مساعدة الأسر المأزومة أو المضطربة..وتتحتم التوعية بالأمراض النفسية وبمشكلات تعاطى المخدرات وتوفير سبل الوقاية وأماكن العلاج  حيث يوجد نقص وخلل شديدان فى هذا الشأن.


كما أن تنقية  المواد الإعلامية من مظاهر العنف اللفظى والجسدى باتت ضرورة حتمية  وينبغى الإرتقاء بالرسالة الإعلامية لتؤدى وظيفتها بشكل راق بعيدا عن دعوات العنصرية والتحريض والاستقطاب والكراهية والتهميش بين فئات المجتمع.


ويجب تفعيل دور الأحزاب السياسية لفتح آفاق المشاركة السياسية  وفتح مجالات الإنتاج والإبداع الاقتصادى وتوفير فرص العمل  وتحسين ظروف البيئة من خلال خفض معدلات التكدس السكانى والزحام والتلوث السمعى والبصرى والأخلاقى.


العنف المفرط


وهل إصلاح الخلل فى منظومة التعليم يساهم فى حل مشاكل الأسر المأزومة ؟


- من البديهى أن إصلاح التعليم يرتقى بوعى الناس ويمنحهم قدرات وملكات تعينهم على حل المشكلات بالعقل والمنطق دون الحاجة للعنف المفرط، كما ينبغى الاهتمام بالدراسة النفسية والاجتماعية المتعمقة لكل حوادث العنف خاصة العنف الأسرى والعنف الموجه نحو الأطفال للخروج بتوصيات نوعية مبنية على معرفة الأسباب الحقيقية وراء الجريمة ويتم ذلك بواسطة خبراء متخصصين فى علم النفس والاجتماع.


كما يجب ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وتطبيقها عمليا ويكون رب الأسرة قدوة لأبنائه فى احترام حقوقهم ورعايتهم والحفاظ على سلامتهم  وكرامتهم  وحياتهم وتوفير احتياجاتهم الأساسية وفق قدرة كل منهم.


وبث الوعى الدينى من خلال المؤسسات الدينية « المسجد والكنيسة « وخاصة فى مجال العلاقات الأسرية والحقوق والواجبات بين أفراد الأسرة  وقواعد التعامل بين الآباء والأبناء.. كل هذا من شأنه أن يعيد التوازن المفقود داخل الكثير من الأسر ويعيد التماسك والاحترام بين جميع أفرادها قبل تزايد ظاهرة العنف غير المسبوقة التى باتت تؤرق الجميع.