حكايات| حسين حجازي.. الأقدار تكتب قصة «الأب الروحي» للكرة المصرية

حسين حجازي مع فريقه الإنجليزي
حسين حجازي مع فريقه الإنجليزي

مع بزوغ فجر يوم الرابع عشر من سبتمبر من العام 1891، تعالت صرخات مولود جديد اسمه حسين حجازي، ليعكر مزاج جنود الاحتلال في منطقة مصر القديمة، معلنًا قدومه للحياة التي أقبل عليها بكل ما يملك، فهو ابن الأسرة ميسورة الحال والتي ألحقته بأفضل المدارس في مراحل التعليم المبكرة، لكن المفاجأة تمثلت في انجذابه لتلك الكرة المصنوعة من الجلد والتي أدخلها جنود الاحتلال البريطاني إلى المحروسة في العام 1882.

 

في الشارع والمدرسة وحتى المنزل، لم تبتعد الكرة عن قدميّ حجازي، فأفصحت له بكل أسرارها منذ الوهلة الأولى بقدر ما منحها من الحب والاهتمام الكبيرين، فأصبح في غضون سنوات قليلة أشهر لاعب كرة قدم في القاهرة، وأسس فريقًا أسماه «حجازي 11» من بعض أصدقاء الطفولة والدراسة، وجاب شوارع القاهرة ليلاً ونهارًا يبهر جنود الاحتلال البريطاني بتفوقه عليهم في ممارسة اللعبة التي اخترعوها وصدروها للعالم لتصبح اللعبة الشعبية الأولى حتى يومنا هذا.

 

اقرأ حكاية أخرى:  القادمون من الخلف.. سعد سمير «بائع الفول» في مونديال روسيا

 

سبقته شهرته إلى السعيدية الثانوية فأصبح قائد فريق الكرة في المدرسة العريقة، وانضم من خلالها لأول تشكيل لفريق كرة قدم للنادي الأهلي الذي تأسس عام 1907، ليصبح النجم الأول للقلعة الحمراء في 1911، لتبدأ مع هذا التاريخ لمسات القدر التي رسمت وكتبت حكاية «أبو الكرة المصرية» حسين حجازي.

 

 

الاحتراف في إنجلترا

 

نبوغ حجازي لم يكن على مستوى كرة القدم فقط، ولكنه أيضًا تفوق على مستوى دراسته، فلعب القدر لعبته بإصرار عائلته على إرساله إلى بريطانيا لدراسة الهندسة، وترك النادي الأهلي وظن الجميع أنه قد ودّع معشوقته كرة القدم للتفرغ للدراسة في العاصمة البريطانية لندن، ولكن الحب دائمًا يأتي بما لا يتوقعه أحد.

 

وصل الشاب ذو الـ 20 ربيعًا إلى لندن على متن باخرة كبيرة، يحمل حقيبته وأحلام عائلته، مخلفًا وراء ظهره عشق كرة القدم، لينهي فورًا أوراق التحاقه بالجامعة لدراسة الهندسة، ويختار محل سكنه في أحد أحياء العاصمة البريطانية، ولكن المفاجأة أنه كان قريبًا من أحد الأندية الصغيرة التي تمارس كرة القدم، وما كان منه إلا أن لبى نداء العشق، وانضم لنادي دولويتش هاملت في الثاني من سبتمبر من العام 1911.

 

وشارك اللاعب المصري الشاب مع فريق دولويتش هاملت في مباريات ودية عدة، أولها أمام وست نوروود وسجل في شباكه هدفين، كما نجح في إحراز العديد من الأهداف خلال فترة الإعداد ليبهر مسؤولي وجماهير الفريق اللندني، وبعد أقل من شهرين، تلقى حجازي دعوة من نادي فولهام الذي كان ينافس وقتذاك في دوري القسم الثاني الإنجليزي للانضمام إلى صفوفه وخوض مباراة رسمية أمام ستوكبورت كاونتي.

 

اقرأ حكاية أخرى: "فئران الصحراء".. قصة لقب عظيم أهانته الصحافة المصرية بجهل !

 


وبالفعل شهد يوم 11/11/1911 أول ظهور رسمي للاعب عربي وأفريقي في إنجلترا وأوروبا بأسرها، حين شارك حجازي أساسيًا مع فولهام أمام ستوكبورت كاونتي في دوري القسم الثاني الإنجليزي وافتتح التسجيل في الدقيقة 15، وقاد الفريق اللندني إلى الفوز على منافسه بثلاثة أهداف مقابل هدف وحيد وسط انبهار كبير وإعجاب شديد من كل المتابعين الذين وصفوه بالساحر المصري.

 

وعقب تألقه في ظهوره الأول بقميص فولهام أمام ستوكبورت كاونتي، أصّر المدير الفني للفريق اللندني، الاسكتلندي فيل كيلسو، على اصطحاب حجازي لخوض مباراة في الأسبوع التالي أمام ليدز سيتي، ولكن النهاية الدراماتيكية لمشوار حجازي مع فولهام جاءت سريعة وغير متوقعة حين فوجئ المهاجم المصري الشاب أثناء تلقيه التهاني من زملاء الدراسة على تألقه في المباراة الأولى مع الفريق اللندني، بوجود رئيس نادي دولويتش هاملت، ويلسون ومساعده جورج ويلر، ليخبره بأنه أحد أهم أعمدة الـ«هاملت»، مؤكدًا حاجة الفريق إلى جهوده في المرحلة المُقبلة، ومشيرًا في الوقت نفسه إلى إن استمراره مع الفريقين - فولهام ودوليتش هاملت - في آن واحد غير قانوني.

 


وكعادة المصريين، كان للعاطفة الأثر الأكبر على قرار حجازي الذي قرر ترك فولهام المنافس في دوري القسم الثاني بعد خوض مباراة واحدة فقط، عاد إلى دولويتش هاملت الذي لا يقارن بفولهام من حيث التاريخ أو الاحترافية، رافضًا السفر مع النادي اللندني لمواجهة ليدز، قائلًا :« كنت أتمنى أن أخوض عددًا كبيرًا من المباريات في الدوري، ولكني أيضًا لا أرغب في الابتعاد عن دولويتش هاملت، ولذلك قررت العودة، وأعتذر عن خيبة الأمل التي سببتها لفولهام».

 

ووقع قرار حجازي على المدير الفني لفولهام الاسكتلندي «كيلسو» كالصاعقة، وبعد أن ضحى حجازي باللعب في الدوري مع فولهام، ورفض عرضًا مغريًا من ميلوال، وقّع المهاجم المصري الشاب عقدًا مع دولويتش هاملت، ليصفه رئيس النادي اللندني الصغير بـ«أشرف من وطأت قدماه ملاعب كرة القدم». 

 

اقرأ حكاية أخرى: «أنا مبابي».. أمير موناكو الثاني الذي سيصل يومًا للقمر

 

وفي ديسمبر من العام 1911 أختير حجازي مع اثنين من زملائه في فريق دولويتش هاملت هما آرثر نايت وجورج شيبوي ضمن تشكيلة منتخب مقاطعة لندن الذي خاض معه خمس مباريات، ليصبح اللاعب المصري الأول والأخير الذي ينضم إلى منتخبات المقاطعات الإنجليزية.

 

 

 

وشهد موسم 1911/1912 تألقًا كبيرًا لحجازي ضمن صفوف دولويتش هاملت بعدما سجل العديد من الأهداف التي جعلت منه أميرًا متوجًا لدى جماهير ومسؤولي النادي الصغير، وتهافتت عليه الأندية الكبرى ثانية، ليوقع «عقد هاو» مع نادي ميلوال مطلع موسم 1912/1913.

 

ولم تكن تجربة ميلوال أفضل من سابقتها مع فولهام حيث ظهر حجازي بألوان فريقه الجديد في مباراتين فقط آخرهما أمام كارديف سيتي، قبل أن يعود مرة أخرى إلى صفوف دولويتش هاملت ويشارك في جولاته الأوروبية، وكانت أبرزها في هولندا، حيث شهدت الفوز الوحيد لـ"الهاملت" على أياكس أمستردام الهولندي بمشاركة المهاجم المصري الشاب، بعد 3 تعادلات مع أندية هولندية أخرى.

 

 

العودة إلى المحروسة

 

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى لم يكن هناك مفر أمام حجازي من العودة إلى مصر وترك فريقه دولويتش هاملت ودراسته أيضًا، بعد اشتعال الأوضاع في أوروبا، لتنتهي رحلة احتراف أول لاعب عربي وأفريقي في الملاعب الإنجليزية.

 

عاد حجازي إلى مصر وانضم إلى نادي السكة الحديد لموسم واحد، ثم عاد إلى بيته الأول النادي الأهلي وقضى ملهم الكرة المصرية الفترة بين عامي 1915 وحتى اعتزاله عام 1931 ينتقل بين ناديي الأهلي والزمالك القاهريين، لتظهر فكرة التعصب للمرة الأولى بين جماهير الناديين، حيث قضى المهاجم المصري الأبرز في ذلك الجيل 8 مواسم ضمن صفوف القلعة الحمراء، قبل أن ينتقل إلى القلعة البيضاء لخمسة مواسم، ومع انتقاله من الأهلي إلى الزمالك ينتقل معه عدد كبير من المشجعين لمساندته، فيما يبقى البعض مساندًا لناديه دون النظر إلى الأسماء أو الانتقالات.

 

وعاد حجازي مرة ثانية إلى الأهلي عام 1928 لفترة قصيرة، حيث انتقل إلى الزمالك للمرة الثانية عام 1929 حتى اعتزل ضمن صفوف الفريق الأبيض في العام 1931.

 

منتخب مصر

 

ويبقى الإنجاز الأبرز لحجازي كونه أول قائد لمنتخب مصر بعد تكوينه في العام 1920، والذي شارك في دورة الألعاب الأولمبية التي نظمتها مدينة أنتويرب البلجيكية في العام ذاته، حيث قاد حجازي منتخب مصر إلى الفوز الأولمبي الأول في تاريخه على نظيره اليوغوسلافي بأربعة أهداف مقابل هدفين في الثاني من سبتمبر 1920، سجل منها المهاجم المخضرم هدفًا.

 

 

 

وعزز حجازي سجلّه بالهدف الأولمبي الثاني والذي أحرزه خلال منافسات أولمبياد «باريس 1924» في مرمى المنتخب الهنجاري الذي سقط أمام «الفراعنة» بثلاثية نظيفة في حضور 8000 متفرج، ليصبح حجازي أول وآخر لاعب مصري يسجل هدفين في دورتين أولمبيتين متتاليتين.

 

وظل حجازي مستأثرًا برقم قياسي أولمبي فريد من نوعه لمدة 88 عامًا، حيث كان أكبر لاعب يسجل هدفًا في تاريخ الأولمبياد حين أحرز هدفه في مرمى المنتخب الهنجاري في دورة الألعاب الأولمبية «باريس 1924» وكان يبلغ وقتئذ 37 عامًا.

 

وتحطم هذا الرقم في العام 2012 عندما سجل الويلزي المخضرم ريان جيجز - 38 عامًا آنذاك - هدفًا لمنتخب بريطانيا العظمى في مرمى المنتخب الإماراتي خلال دورة الألعاب الأولمبية التي استضافتها العاصمة البريطانية لندن، وأبرزت الصحافة الإنجليزية نبأ تحطيم الرقم القياسي الصامد والمسجل باسم حجازي عبر جيجز.

 

وامتد عطاء حجازي إلى خارج المستطيل الأخضر، وبدأ رحلة إنشاء الاتحاد المصري لكرة القدم عام 1920، حتى تحقق الحلم في نهاية عام 1921، وتم إعلان تأسيس أول اتحاد مصري لكرة القدم برئاسة جعفر والي باشا، لتدخل «المحروسة» مرحلة جديدة في تاريخ اللعبة، ولم ينقطع عطاء حجازي للكرة المصرية إلا في يوم الرحيل 8 أكتوبر عام 1961.

 

 

الحوار الأخير قبل الرحيل.. مجلة آخر ساعة 1961

 

قال حجازي: إن اللاعب زمان كان هاويا يلعب الكرة ليرضي هوايته فقط، وكان اللاعبون يدفعون اشتراك النادي وثمن الملابس، ولا يحصلون من النادي إلا على "فانلة" الكرة فقط، وكانوا يمارسون الكرة في كل وقت فراغ، وكانوا يحافظون على أنفسهم وصحتهم، فكانوا يخلدون إلى الفراش في الثامنة والنصف.

 

اقرأ حكاية أخرى:  الظاهرة رونالدو يروي: «أخبروني بأني انتهيت.. فوصلت للكمال»

 

وأوضح حجازي، أن أزمة الكرة الآن تتلخص في أزمة الأخلاق فاللاعبون لا يرضون هوايتهم ولا يهتمون بصحتهم، وأصبح السهر وشرب السجائر موضة وأساسا للنجومية.

 

وأضاف أن اللاعب أصبح لا يحاسب نفسه ولا يحافظ على صحته وبالتالي بات في حاجة إلي رقيب، فصارت قوة الاحتمال ضعيفة وقلت السرعة التي لا تأتي إلا من خلال اللياقة البدنية، وكذلك تقدير الجري إلي الكرة، وعن نفسه فإنه كان يجري بأقصي سرعة مع تقدير المسافة على الكرة ويحسن استقبالها ويصوبها نحو الهدف في نفس اللحظة، مؤكدا أنه إذا قلت اللياقة قلت السرعة والفن.

ووصف فن الكرة وقتها بالمتقدم لكن الأخلاق تضعف الفرق، وإذا عولجت الأخلاق عولجت الكرة.

لم يقتصر فضل حسين حجازي على الكرة كلاعب ولكنه تولى إيجاد الشكل التعاوني بين الهيئات الأهلية المهتمة بشئون اللعبة وبين الحكومة ممثلة في وزارة الشئون الاجتماعية الذي عمل مستشارا لها بعد اعتزاله، وكان لهذا التعاون أثره في تنظيم أمور اللعبة، واختاره اتحاد الكرة مستشارا فنيا له، وعمل بهمة وإخلاص في سبيل رفعة شأن اللعبة وكانت له اقتراحات عظيمة في إصلاح حال اللاعبين حتى تنهض اللعبة نهضة كبيرة.