د. صلاح فضل: 30 يونيو هزمت الفاشية الدينية وأعادت عجلة الإنتاج للدوران

د.صلاح فضل - تصوير عصام مناع
د.صلاح فضل - تصوير عصام مناع

- المثقفون أول من أدركوا أن الجماعة الإرهابية تقود الوطن إلى الهاوية

- الكتاب لا يقل أهمية عن رغيف الخبز والدعم الثقافى أولى من دعم المحروقات

- الإخوان «أخطبوط» ممتد الأذرع خارجيا .. ويقيمون تحالفات غربية ضخمة ضد مصر


صحيحٌ أن تدهور الفكر وانكساره تم على أيدى المتلاعبين بالعقول فأثر على محيطنا العربى بعدما أوهموا الشباب بالتلفيقات المزورة والتأويلات المشوهة فارتكبوا الشناعات، وصحيحٌ أن هذا أدخلنا فى بحر لُجى متلاطم الأمواج الإرهابية.

 ولكن الصحيح أيضًا أنه لا تزال هناك ارتعاشة أخيرة فى مصباح الثقافة قادرة، إن تمسكنا بها، على إخراجنا من ضيق الرؤى والغلو إلى سعة الأفكار وأنوار الحضارة، خاصة أن الطريق إلى التغيير الثقافى أيسر من أن يحتاج إلى خريطة معرفية.. لذلك اتفق أو اختلف مع آرائه ما شئتَ لكنك لن تملك إنكار أنه عقلٌ مصرى عظيم وقامة معرفية أسهمت كثيرًا فى رفعة هذا الوطن فى جميع المحافل العربية والدولية،   إنه شيخ النقاد والمفكر الكبير د. صلاح فضل، الحائز مؤخرا على جائزة النيل فى الآداب، والذى يُحلل واقعنا الثقافى فى هذا الحوار: 

بداية ونحن فى الذكرى الخامسة لثورة 30 يونيو.. ما الذى تحقق من أهدافها حتى الآن؟
- أبرز ما تحقق من ثورة 30 يونيو بشكل فورى ومدهش ومفاجئ كان صرخة الشعب المصرى بمختلف فئاته ومستوياته وطبقاته بحيث فاجأ كل من راقبوه بعدما تم وضع حد للطريق الذى اتخذته مصر للتحول إلى دولةٍ دينيةٍ، لأن مصر بطبيعتها دولة عريقة واختمرت فيها القوى الروحية العظمى عبر التاريخ، وتُدرك فى قرارة وعيها الجمعى أن المحافظة على جوهر الدين تتمثل فى تنمية الطاقة الروحية للإنسان والاحتفاظ بالأساس الأخلاقي، الأمر الذى يُفجر طاقات الإبداع لدى الإنسان؛ فالدين عند قدماء المصريين كان حافزًا جوهريا للفن والحضارة، لكن الدين الشكلى الذى كانت الجماعات الدينية قد بدأت تصبغ فيه المجتمع وبطريقة فيها شيء من القسر والتشويه لطبيعة الإنسان المصرى الذى يختلف وعيه الدينى عما تعلنه هذه الجماعات.. ومصر من ناحية أخرى قادت حركة التنوير فى الوطن العربى كله خلال القرنين الأخيرين، والأهم فى هذا التنوير السعى لتحقيق التطور الحضارى باعتبار الحريات ذروة القيم المعاصرة، كما أن التحول الديمقراطى هو طموح الشعب المصرى الذى عناه فى ثورة يناير: عيش، حرية، عدالة اجتماعية.
إجهاض ديمقراطى 


وكيف سيطرت الجماعات المتطرفة على هذا التحول الفكرى للمجتمع واختزلت التجربة لنفسها؟
- ما حدث أن الإخوان امتطوا صهوة التطور الديمقراطى فى يناير لكى يُجهضوه، وبالتالى أدركت جموع الناس ذات الوعى الكامل أن هذا انحراف بالدولة المصرية، ولأن مصر هى رائدة الوطن العربى فسوف يُهدد هذا بقية الدول العربية والمنطقة ولذلك نزل الشعب للتغيير فى 30 يونيو، واللحظة التى استطاعوا فيها هزيمة الفاشية الدينية كان ذلك هو الانتصار الأول للثورة، وبعد ذلك كانت الصعوبات أمام المجتمع المصرى شاقة أبرزها أن مصر قد كفت عن الإنتاج وتقريبًا تعطلت آليات الوطن فى الصناعة والأنشطة الأخرى وتوشك أن تدخل فى مأزق اقتصادى عنيف، فأخذت تواجه هذا المأزق معطية أولوية بالدرجة الأولى لاستقرار المجتمع بعد هذه الفورات الثورية التى استمرت ثلاث سنوات، وهذا الاستقرار أوصلنا إلى حد كبير لتحقيق أمرين نحمدهما لثورة 30 يونيو فى مرحلتها الأولى: الأمر الأول عودة الأمن للشارع المصري، والأمر الثانى عودة عجلة الإنتاج للدوران بعد أن أوشكت على التوقف.


 ولماذا لم تقنع الجماعة الإرهابية بتلك النتيجة التى أرادها الشعب فى ثورته؟
- للأسف لم يُسلّم الإخوان بهذا المصير لأنه يقضى على مشروعهم، وأصروا على أنهم أصحاب شرعية مع أن ثورة 30 يونيو سحبت منهم هذه الشرعية المزعومة، وأصروا على أن ما حدث ليس ثورة شعبية، ثم أغرقوا الوطن فى سلسلة من التهديدات التى أخذت سبيلها بفعل الجماعات التى بدأت تتمركز فى سيناء وتنتشر فى ربوع الوطن؛ وهذه الجماعات الإرهابية أقضَّت مضجع المجتمع المصرى وأثخنت جراحه وسببت له فى الفترة التى أعقبت ثورة 30 يونيو حالة من القلق وأصبحت المشكلة الأولى هى الإرهاب.


مهارة قاض نزيه
 وكيف أثر هذا التوجه الضرورى على فكرة ضرورية أخرى بالتحول إلى الحياة الديمقراطية والنيابية فى مصر؟
- بالطبع عوَّق ذلك التوجه إلى حد ما مشروع التحول إلى الحياة الديمقراطية والنيابية السليمة، وانتهزت القوى الوطنية ذلك فى العام الذى تلا 30 يونيو على وجه التحديد لكى تُكفكف وتُلملم جراحها وتعكف على صياغة الدستور ليضع الأسس المتينة لمستقبل مصر، وبالفعل تم هذا وصدر الدستور فى 2014 ومضت الفترة الانتقالية وقاد المستشار عدلى منصور بمهارة وحياد قاضٍ نزيهٍ، وبعد ذلك جاءت انتخابات الرئاسة التى فاز بها الرئيس السيسي.


 وما أبرز التحديات التى واجهت الرئيس السيسى فى ولايته الأولى وكيف استطاع التغلب عليها؟
- بالطبع تكشفت التحديات جلية فى الولاية الأولى للرئيس، وكان أبرزها إعادة التوازن لمصر فى الخارج، حيث كنا فى الداخل مؤمنين بأننا صنعنا ثورة 30 يونيو لتصحيح ثورة يناير، لكن تبين أن أخطبوط جماعة الإخوان الإرهابية ممتد بأذرعه إلى مصالح دولية كبيرة، بالإضافة إلى تحالفات مع قوى غربية ضخمة ومناورات أتباعها وحلفائها بالخارج لتشويه وجه الثورة المصرية التصحيحية، ومحاولة الضغط الخارجي، والحقيقة أن مواقف الدول العربية المساندة بالخارج مثل السعودية والإمارات لعبت دورًا حاسمًا فى مناصرة الشرعية الجديدة فى مصر، وعندما زرت بعض الجامعات والمراكز العلمية وجدتها مخدوعة بالادعاءات الإخوانية وتظن أن ثورة 30 يونيو أحبطت التجربة الديمقراطية على خلاف الواقع وكانوا يلوموننا كمثقفين على الوقوف معها ومناصرتها ودعمها، وكان علينا رغم العنت الشديد الذى واجهناه إفهام هؤلاء المخدوعين حقيقة ما حدث بأنه سحب ثقة مليونية من هذه الجماعات الإرهابية التى أتقنت التكتيك الانتخابى واستغلت غيبوبة نظام مبارك وغفلته لتخدع الجماهير المصرية وتبتزها بالشعور الدينى لتقفز هى على السلطة، إلى جانب التمويل الخارجى والمساعدة التنظيمية مما أتاح لهم نوعًا من الانتصار فى الانتخابات، لكن ذلك تم بالتمويه والخداع الحقيقى الذى يُدركه المشتغلون بالفكر والثقافة.


الصعوبة الأولى
وهل كان إدراك المثقفين لطبيعة هذا الفكر الإخوانى المنحل كافيًا للقيام بدورهم المنوط؟
- بالطبع لا، لكن الحقيقة أن المثقفين كانوا أول من أدرك أن الإخوان يقودون الوطن إلى الهاوية.. وكانت الصعوبة الأولى التى واجهتنا كمثقفين بعد 30 يونيو فى إقناع العالم بأن هناك سحب ثقة من الشرعية القديمة والخروج المليونى للجماهير التى فاق عددها عدد الأصوات التى حصل عليها الرئيس الإخوانى المعزول وكان كفيلا بمسح الشرعية الإخوانية وتأسيس شرعية مباشرة جديدة.


ولكن ألا تعتقد أن دور المثقفين لم يكن موازيًا للدور الأمنى الذى قامت به الدولة؟
- فيما يتصل بالمثقفين للأسف تمت تنحيتهم بشكل ممنهج ومنظم عن وسائل الإعلام التى هى أداة التواصل بين المثقف والجمهور، وكان الإعلام بغباءٍ شديدٍ يُصدِّرُ فئةً من الدعاة المزيفين والشيوخ المُضللين ليصب فى آذان الناس نوعا خاصا من الثقافة المضادة للثقافة الحقيقية لتزييف الوعي، وهى ثقافة السمع والطاعة والخرافة والجهل وثقافة سلب واستيلاب الجمهور بدعوى المبادئ الدينية، ولأن المثقف بطبيعته ليست له طاقة هائلة على النفاق بعكس هؤلاء الشيوخ الذين يُتقنون النفاق لأقصى درجة كنت تجد هذه الوجوه تحتل الفضائيات، ولذلك فإن الإعلام لعب دورا سلبيا جدا فى تقديم هؤلاء الأدعياء الذين ظلوا فترة مخالفين للنظام ويُحاربونه فى وسائل الإعلام.


 أنت إذن تظن أن المثقفين براء من كل شيء رغم أننا لم نلاحظ تماسكهم لمواجهة هذا التغول الديني.. كيف تفسر ذلك؟ 
- المثقفون ليسوا براء من شيء ولكن حيل بينهم وبين المواجهة، وكانت لهم- رغم ذلك- مبادرات كثيرة شاركتُ أنا نفسى فى بعضها، ولا ننسى موقفهم حين التفوا لتأسيس قواعد جيدة لحقوق الدستور.


مشروعات ثقافية
بعد كل هذه الرحلة الفكرية الممتدة.. هل تحمل مشروعات فكرية تستطيع بها تغيير واقعنا الثقافي؟
- بالطبع أحمل مشروعات عديدة أهمها أن المسجد مثلا ليس مكانا للعبادة فقط، ولكنه مدرسة للعلم والتعلم، ومكان معرفى للقراءة والاطلاع، ومكان لالتقاء الناس حين لم تكن هناك نواد حيث يجتمع الحكاؤون والرواة لإنشاد الشعر، فما الذى يجعل المسجد وهو أكثر الأماكن انتشارا فى مصر محصورا فقط فى طقس العبادة والخطبة المجمدة الرديئة التى لا يُمكن أن تُقدم زادا ثقافيا، ماذا لو فكرنا أن تكون المساجد مكتبات، واحدة ورقية تقليدية وأخرى رقمية، وتكون الأولوية للكتب التنويرية والعلمية والدينية بما لا يُركز على الطقوس فقط وإنما للتركيز على الطاقة الروحية للإنسان مع القوام الأخلاقي، ويُصبح إمام المسجد هو أمين المكتبة، ويكون المصلون هم القراء، وهذا تحقيق لرسالة المساجد وليس انحرافا بها.


ومن الجهات المنوط بها تنفيذ تلك الفكرة؟
- وزارتا الأوقاف والثقافة، مع الإعداد لتهيئة المكتبات وتبويبها، ولو تحولت المساجد إلى مكتبات لتغيرت عقول وأفكار الكثيرين، ولنبدأ مثلا بالمساجد الكبرى ونترك الزوايا، وعلى الأقل سيجد الإمام شيئا مُجديا يقرأه ويُطعّم به خطبته، وبالتوازى مع ذلك نستغل بيوت الشباب التى تفتقر إلى إمكانات حقيقية للتثقيف، وقصور الثقافة التى تُخيم عليها العناكب.


ليست رفاهية 
 ولكن البعض يعتقد أن تلك الأمور الثقافية رفاهية فى ظل البحث عن لقمة العيش التائهة بين نوبات ارتفاع الأسعار؟
- هذه هى المشكلة، أننا نعتبر الثقافة رفاهية، وفى تقديرى أن الكتاب لا يقل أهمية عن رغيف الخبز، والدولة التى تهتم فقط بإطعام شعبها مثل صاحب قن الدجاج الذى يرمى الحبوب لدجاجاته، ولسنا دجاجا إنما نحن بشر يعقل ويُفكر، وكما تنمو الأجساد تحتاج العقول إلى النمو، ومسئولية بلد كبير مثل مصر أن يجعل الدعم الثقافى أهم من دعم المحروقات.  


ما رأيك فى التحالفات التى تتم داخل البرلمان الآن.. وما مدى إفادتها لهذا التحول الديمقراطى الجارى؟
- أعتقد أن هذه التآلفات والتحالفات ضد الديمقراطية، لأن القصد منها هو توحيد الرأي، والتوحيد ضد التعددية، والتوحيد ضد التنافس الحزبي؛ وهذا عكس ما نرجوه.


هل معنى ذلك أن تظل الأحزاب- على كثرتها- هامشية وغير مؤثرة فى الشارع؟ 
- هذه هى المشكلة، لأن الأحزاب القوية تتم محاربتها، ونحن منذ سبعين عاما لم نتقن بعد كيفية إدارة حياتنا الحزبية..  ونفتقد للنقلة النوعية.. وقد شاهدت مثلا ما حدث فى إسبانيا حين حكمها فرانكو بديكتاتورية شديدة لثلاثين عاما وبطريقة أقسى مما حدث عندنا، لكن النماذج الديمقراطية الأوربية كانت جيدة ليتبعها الملك خوان كارلوس، وعندما بدأ فى التحول الديمقراطى تشكلت فى إسبانيا مجموعة من الأحزاب وصلت إلى 114 حزبا، ثم تبلورت فى مجموعات ليبرالية ويمينية ويسارية وخاضت التجربة.


 وما الذى أعاقنا عن اتباع تلك التجربة وتنفيذها بعد ثورتين كاملتين؟
- الذى أعاقنا أمران: القوى الدينية التى تريد أن تتربص بالديمقراطية لتقفز على السلطة، وتستغل الانتخابات لتمسك بالحُكم ثم لا تتخلى عنه، ولدينا نموذج حماس التى أمسكت بالحُكم ولم تتخل عنه حتى الآن، وكذلك الملالى بإيران الذين لم يتركوا الحُكم، وإردوغان الذى استغل الأيديولوجية الدينية لأتباعه ليتشبث بالحُكم، وكل هؤلاء يرفعون شعار الدين ويتوهمون أنهم يحكمون باسم الله، وبالطبع لا بد أن ينتصر حزب الله على أحزاب الشيطان ولذلك يُشيطنون أعداءهم، وقد يُهادنون فى خطابهم ويزعمون أنهم يحتكمون إلى الصناديق بينما يُناورون للاحتفاظ بالسلطة، وهذا ما كان سيفعله الإخوان، بل وأعلنوه صراحة أنهم جاءوا ليحكموا قرونا.
اختطاف الخطاب


 كانت لكم تجربة لمواجهة تلك الادعاءات بأسلوب علمى بالاتفاق مع الأزهر فيما عُرف بوثيقة الأزهر.. من المسئول عن إفشال العمل بتلك الوثيقة؟
- كان مبعث التجربة أن المثقفين الحقيقيين لا بد أن يكون وعيهم عميقا وصائبا بطرائق التطور الحضارى وصناعة المستقبل؛ وأذكر أننى كنتُ أطرح على نجيب محفوظ سؤالا وأقول له: أنت ديمقراطى ووفدى ومؤمن بالليبرالية ألا ترى أنه لو تحققت انتخابات حُرة نزيهة فى بلد مثل مصر سوف تنجح القوى الدينية؟ وكان يقول: نعم أعتقد ذلك، ولكن لا بد أن نمر بهذه التجربة حتى لو كان الثمن الخضوع فترة للحُكم الدينى حتى يُدرك الشعب خطورة هذا الحُكم ويتخلص منه.. وعندما قامت ثورة يناير كنتُ أتوقع ومجموعة من المثقفين أن يتم استغلال واختطاف الخطاب الدينى للقفز على السلطة فلجأنا إلى الأزهر لتحييد هذا الخطاب وأصدرنا أول وثيقة كان هدفها الأساسى تأسيس مفاهيم مدنية الدولة، وأن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية وأنه لا يُناقض على الإطلاق الحُكم الديمقراطى المدنى الدستورى الحديث، ولأن الثورة كانت قد هزت مُسلمات رجال الدين فاستجابوا لذلك.


وماذا عن أهم العقبات التى واجهت الوثيقة الثانية عن الحريات؟ 
- عندما أجريت الانتخابات كنا نتوقع من 20 إلى 25% للأحزاب الدينية، وفوجئنا أنها حصلت على 70% الأمر الذى أصبح يتهدد كيان المجتمع المصرى كله، فاقترحتُ أن تكون الوثيقة الثانية عن الحريات، وأصدرنا وثيقة رائعة بمشاركة الأزهر الذى كان مخضوضا ومتخوفا مثلنا، ولأن هؤلاء كانوا يُحاولون سحب البساط من تحته ويعملون على تغييره، وعندما جاء رئيس منهم فرضوا سيطرتهم على المؤسسة الدينية، فأعددنا وثيقة ليبرالية متحضرة عن حقوق المرأة لم يستطع الأزهر إصدارها فى وقت الإخوان.


 بعد سنة الإخوان كانت هناك أيضا وثيقة مهمة عن الخطاب الديني.. كيف تمت الدعوة إليها؟
- تمت الدعوة إليها لمواجهة ما حدث فى هذا الخطاب، ولكن عند العمل بهذه الوثيقة تجلت طبيعة المؤسسات الدينية المحافظة، المترددة، التى تُؤثر السلامة وتنفر من التجديد، فتوقفت العملية.


ولماذا لم يتم البحث عن حل وسط بين المثقفين والأزهر تغليبا لمصلحة الوطن؟
- حاولتُ بقدر الإمكان القيام بهذا الدور التوفيقى الوسيط، فكنتُ أطرح مسودة الوثيقة فيدور حولها نقاش مفتوح وأستقى من الآراء الأخرى ما يتفق مع الفكرة الجوهرية وأضمها إلى الوثيقة وأنفى ما لقى اعتراضا شديدًا، وأطرح فكرة ثانية وهكذا حتى أصل إلى الشكل الذى لا يُهدد الاستراتيجية الأساسية للفكرة الجوهرية ويُحافظ عليها ويحتضن كل الأفكار المتعددة الأخرى، وكان هذا أقصى ما يُمكن عمله.


أكسجين الإبداع
 وماذا كانت أهم دوائر الخلاف بين المثقفين والأزهر حول بنود هذه الوثائق؟ 
- أذكر أنه اشتد الخلاف بيننا وبين الأزهر حول مفهوم حرية الإبداع، بالنسبة لمن يشتغل بالأدب والنقد هذه الحرية لا بد أن تكون أعلى سقفا من أى شيء آخر، لأن الحرية هى أكسجين الإبداع الذى يتنفس به أى كاتب، وإذا شعر برقابة ذاتية أو رقابة من الآخر تُملى عليه تُشل حركة تفكيره، ولكن رجال الدين كانت لهم تحفظات، وعندما يتم انتقاد الخطاب الدينى مثلا فإنهم لا يرتاحون لذلك لأنه ضد مصالحهم وضد ثوابتهم، وكان الحل الوسط أن نبتلع شرطا ونتوافق عليه وهو ألا يكون فى هذه الحرية ما يجرح الحس الدينى لدى الجمهور أو يُسيء إلى المقدسات.. ويكفى التنبيه إلى مئات الآلاف من خطباء المساجد الذين يصبّون جهلا ونُكرا فى آذان المستمعين كل أسبوع، فهم كفيلون ليس فقط بتحويلنا إلى دولة دينية ولكن إلى دولة أكثر تخلفا من الجاهلية الأولى.


 وكيف كان رد فعل الأدباء حول التنازل عن قناعات الانعتاق من الرقابة الراسخة لديهم؟
- بالنسبة إلى الأدباء فإن هتك قداسة المقدس جزء من الإبداع نفسه، فهم لا يعترفون بأى مقدس سياسى أو سلطوى أو اجتماعى خاص بالأخلاق أو مقدس ديني، والعلم كذلك صنع مقدسًا جديدًا اسمه الحرية وهو المقدس البشرى الذى حل محل المقدسات القديمة، وهذا هو مفهومنا كرجال أدب وفن وإبداع، ولم يكن من الممكن لرجال الدين أن يوافقونا على ذلك، لأن الخطاب الدينى يميل إلى تقديس غير المقدس، أما الخطاب الأدبى والنقدى فعلى العكس تمامًا، وعندما كنت فى المعهد الدينى بدسوق كنا نمثل شخصيات الصحابة والأنبياء ولم يستنكر ذلك شيخ المعهد وكان من كبار العلماء وهو الشيخ صادق عرجون، ولكنك لا تجرؤ على ذلك الآن.. ولذلك التقينا معهم فى منتصف الطريق وتنازلنا عن هذه المُسلمات لكى يتنازلوا هم عن تجمدهم ومحافظتهم الشديدة ويسمحوا بقدرٍ من الحرية مُعتمدين على شيء أساسي: أنه حتى الأدب والفن ليست فيه حرية مطلقة لأنه يتوجه إلى جمهور، ومعتقدات هذا الجمهور وأحاسيسه لا بد أن يأخذها الأديب فى الاعتبار وألا يصدم جمهوره الذى يستطيع إسقاطه ومعاقبته، وبالتالى هناك جدلية دائمة لأن مهمة المبدع أو العالم ليست فى أن يتحرر هو ولكن فى أن يُحرر غيره من الجمهور؛ ولذلك فإن الأعمال الفجة التى تلفظها المجتمعات هى أعمال ضعيفة فنيا.
الخطاب الثقافى


 أنت تطالبنا برفض الخضوع الخانع للخطاب الدينى وتجاهله فأى خطاب بديل تقترح ليقوم بدوره ويحل محله؟
- أقترح استبداله بالخطاب الثقافى الحى الذى يُعيد ترتيب الأمور، لأن جيولوجيا الخطاب الثقافى أعمق بكثير من غيرها، وتشمل مستويات عدة منها الروحى والدينى الذى تُسانده طبقة العادات والتقاليد ثم طبقة الفنون والآداب، كما أنها تعمل على تكييف الخطاب الدينى ببطء وتؤدة وتُضفى عليه قدرًا من الحيوية والمُعاصرة، وأعلى طبقة من الخطاب الثقافى هو الخطاب العلمى وهو شديد التغير وجذري.. خاصة أن صميم مشاكلنا ذو طابع ثقافي، وتغلغل الجماعات المتطرفة فى المناطق الشعبية اختلال للوعى والعقل وهو أمر ثقافي.. ومع هذا فإننى أعتقد دوما أن مصر دولة عظمى ثقافيا ولا يملك أحد تراثا ثقافيا أسهم فى تشكيل العالم مثلنا.


 إذن، هل تعتقد أن مؤسسة الأزهر لم تتأثر فكريا كما يجب بكل تلك التغيرات الاجتماعية؟
- فى الحقيقة أن تأثرها كان سطحيا جدا، وأنت تجد أن رجل الشارع لا يُلاقى إلا غثاء الخطاب الدينى وليس حتى الخطاب الدينى المستنير.. وقد كانت لدينا بالسابق خمسة معاهد دينية فقط، والآن لدينا أكثر من 15 ألف معهد ديني، فماذا نفعل بكل تلك المعاهد فنحن لسنا بحاجة إلى جيش من رجال الدين، وإنما بحاجة إلى جيوش من المهندسين والأطباء والعلماء والصناع والتجار. 


قانون معيب    
وإذا كانت نوايانا صادقة وأردنا التأسيس لخطاب دينى متجدد وحقيقى ومتفاعل مع الواقع.. فمن أين نبدأ؟
- التجدد فى الخطاب يكون برفع سقف الحريات إلى أقصى مدى ممكن فى الفكر والفلسفة والتجريب العلمي، ومثلا الدستور ينص على اعتبار الحرية مسألة جوهرية، ولكن لدينا قانون ازدراء الأديان قد يُتهم به أى شخص بالشارع، ولو قلت مثلا لشخص (صباح الخير) بدلا من (السلام عليكم) يحق له اتهامك بازدراء الدين، أو قال لك أحدهم: (صل على النبي)، ولم تقل: (عليه الصلاة والسلام) يتهمك بازدراء الدين.. فهذا قانون معيب ومشوّه جدا وصدر فى ظروف كريهة.


 ومِن أين تأتى تلك الوصاية المزعومة على أفكارنا ومَن المسئول عن رفعها؟ 
- تأتى من شقين: المجتمع المتخلف، والسلطة الدينية التى تُريد أن تتغول أعمق، وكلما تركت لها الساحة زحفت أكثر لتحتل مساحة أكبر، ولو تركت لرجل الدين التحكم فى حياتك فلن يترك لك حتى أنفاسك، وأنا أعيب على الفضائيات فتح الساحة لهؤلاء للفتوى فى أمور مُضحكة تدل على مدى تخلفنا واهتمامنا بالشكليات التافهة وترك المعنى الحقيقى لجوهر الفلسفة والأخلاق والفكر.


 كانت لك تجربة سابقة فى الحياة السياسية.. هل هناك فرصة لإعادة تلك التجربة مرة أخرى؟
- تجربتى الأساسية فى الثقافة والأدب والنقد، لكننى استشعرت منذ عشرين عاما أن الحياة العامة تفرض علينا مسئوليات أخرى، ولذلك كانت كل مشاركاتى فكرية فى الحياة السياسية، ورغم أننى كنت مؤسسا لعدد من الأحزاب فإننى لم أترشح لأى منصب نيابى أو سياسى لأن رأيى أن المثقف دوره فكرى فى الأساس.