حكايات| أكل العيش بـ«نصف أصابع».. مآسي نجاري الأثاث بدمياط

 أكل العيش بـ«نصف أصابع»
أكل العيش بـ«نصف أصابع»

حين تتحول قصص «الصُحبة» بين النجارين وماكيناتهم لتقطيع الخشب إلى روايات حزينة تُسطر حروفها دماء «عقل الأصابع» المتطايرة من غدر المناشير الكهربائية، تعجز الألسن وتصم الأذن وتتجمد الأعين أمام مشاهد نجارين بنصف أصابع وهم في ريعان شبابهم.  

بين أكل العيش والإهمال الطبي يقف نجارو كفر البطيخ بدمياط، عاجزين عن العودة للوراء فيستعيدوا أصابعهم كاملة أو يواصلوا حياتهم بنفس الكفاءة، لكن تظل احتياجات البيوت «أفواهًا» تطلب المزيد، فلا يستطيع هؤلاء التوقف عن العمل للحظة، بل مضطرون إلى مواصلة العمل بعدد أقل من الأصابع.

اقرأ حكاية أخرى| «المرمغة في التراب بتجيب عيال»

في منطقة النجارين بكفر البطيخ، بدا إغلاق ورش النجارة الصغيرة «مرضًا» ينخر في عظام النجارين، لتتحول الورش إلى ما يشبه المقاهي الصغيرة، يجلس كل نجار أمام ورشته، والحزن يسيطر على ملامحه منتظرًا الفرج.

«أحمد. أ – أحد النجارين» تحدث لـ«بوابة أخبار اليوم» عن مهنة النجارة التي ورثها من أجداده، والتي كانت يومًا ما حلما يسعى إليه شباب دمياط، ثم تحولت مع ارتفاع أسعار المواد الخام إلى مقبرة لدفن تلك الأحلام، وقطع شرايين توريثها للصغار.

يرى «أحمد» أن حوت ارتفاع الأسعار ابتلع أحلام الورش الصغيرة، وبعد أن كان يحضر أطفاله لتعليمهم الصنعة، بعد انتهاء اليوم الدراسي، صار الوضع مختلفًا، ولم يتبق من المهنة سوى «المشاكل النفسية والعاهات الجسدية» للكثير من النجارين الصغار.

معظم النجارين العاملين في الورش الصغيرة – بحسب أحمد – تفاجئهم ماكينات تقطيع الأخشاب بصنابير من الدماء تندفع بقوة من أصابعهم التي تطاير منها «عُقلة» تلو الأخرى رغمًا عنهم؛ حيث يكون التركيز أولا وأخيرًا على إخراج قطعة خشب مضبوطة بـ«المليمتر».

اقرأ حكاية أخرى| نجوم حبسهم باب الكاسيت

إحباط ومأساة صغار النجارين يتزايد على عتبة الوحدة الصحية الخاصة بمدينتهم، فبعد دقائق من إصابتهم يؤكد لهم الأطباء أن علاجهم الوحيد في القاهرة ولا يوجد لهم علاج في دمياط بأكملها، ولا حل سوى تجنب الأعراض الجانبية مثل «الغرغرينا»، وما ينتج عنها من بتر عقلة الأصبع في أسرع وقت، بحسب ما رواه «عاصم. م – أحد النجارين».

الآن بات معظم النجارين في كفر البطيخ «منزوعي» الإصبع أو بعض عُقلها، وإن لم يكن هذا مصيرهم، فإن الأمراض تكالبت عليهم في ظل حالة الإهمال الطبي المنتشرة بالمدينة، وما يزيد الطين بلة أن أقرب وحدة صحية بالمنطقة تبعد بمسافة 7 كيلومترات عن مقر الورش.

اقرأ حكاية أخرى| مخترع ينقل «دركسيون» سيارته للقدم

من بين حكايات عشرات «الصنايعية»، ترك «مصطفى. م - صاحب ورشة نجارة صغيرة» أثرًا مبكيًا عندما بدأ الحديث عن ماكينة صناعة الأثاث التي تسببت في بتر 6 أصابع من يديه، وعند كل إصابة كان يتوجه على الفور للوحدة الصحية مطالبًا بنفسه بسرعة بتر العقلة كاملة، ونتيجة عدة إصابات تطايرت عقل أصابعه واحدة تلو الأخرى حتى وصل به الأمر لبتر 6 أصابع كاملة.

عند إصابته ورغم شعوره بالألم كان «مصطفى» لا يبالي لأنه يعلم جيدًا أن لكل شيء ضريبة، وكل عقلة تطير ضريبة لعمله في النجارة، ورغم ذلك فإن إصابته لم تجبره على التخلي عن مهنته التي ورثها من والده، ولكن استمر لسنوات في العمل بها وتوريثها لأبنائه.

لكن المشكلة الأكبر أن تفاؤل مصطفى لم يستطع الصمود كثيرًا أمام فقدانه بعض عقل إصبعه، وحاليًا يكتفي بالعمل في إحدى المزارع لتوفير احتياجات أسرته اليومية.

ربما يكون فقدان عقلة إصبع أو اثنتين الأزمة والمعاناة المتكررة بين شباب النجارين، غير أن شبحًا آخر يحطمهم نفسيًا وجسديًا، وهو الإصابة بأمراض الصدر وضيق التنفس.

ولا يجد كثيرون حلا لمواجهة غول فرم الأصابع، سوى ارتداء «جوانتيات»؛ لكن دون جدوى فشدة حدة سلاح ماكينات صناعة الأثاث، تصبح أقوى من محاولاتهم اليائسة لتفادي ملامسة أصابعهم لسلاح الماكينة، لينتهي مسلسل النجارة بشباب منزوع الأطراف.