معركة الإسماعيلية.. ملحمة البطولة والفداء

• رجال الشرطة يدافعون عن مدينة الإسماعيلية ضد المحتل البريطاني
• رجال الشرطة يدافعون عن مدينة الإسماعيلية ضد المحتل البريطاني

 

66 عاماً من التضحيات.. وآلاف الشهداء من الإسماعيلية للتحرير
قصص البطولة بدأت بكسر الاحتلال الإنجليزي.. وعزيمة لا تنقطع لبتر أذرع الإرهاب
المحتل حاصر المحافظة والقسم.. ونقيب شرطة : لن تتسلموا منا إلا جثثا هامدة
٨٥٠ ضابطا يضربون أعظم الأمثلة.. وقائد العدوان يأمر جنوده بأداء التحية العسكرية للأبطال

الصراع الدائم بين أصحاب وجهات النظر حول تعريف 25 يناير بأنها مؤامرة أو أنها ثورة شعبية يحسمه تزامن حدث الثورة مع عيد الشرطة الذي هو أصل الاحتفال، وأساس المناسبة القومية.. فمن يعتبر أن 25 يناير مؤمراة يستند علي حقائق اصبحت راسخة لدي الجميع بأن المقصود لم يكن ثورة تحقق للشعب مطالبه وإنما إسقاط الدولة وكسر هيبتها متمثلة في تدمير جهاز الشرطة.. ولكن الواقع الذي أثبتته السنوات السبع الماضية وأن ثورة يناير وعيد الشرطة مناسبتان قوميتان اصبح الشعب علي موعد ثابت للاحتفال بهما، فلولا ثورة 25 يناير ما كان للشعب ان يري كيف تبدل الحال واصبحت الشرطة المدنية في خدمة الشعب والوطن ومدافعه عن مقدرات الدولة.. ومقدمة في سبيل ذلك آلاف الشهداء من أبنائها، .. ولولا الشرطة ما كان الشعب لينعم بالامان والاستقرار الذي يمكننا من الاحتفال بذكري ثورة مجيدة خرجت للمطالبة بالتغيير وتحقيق حلم الشعب في العيش الكريم.

25 يناير 1952 يوم لن يمر من ذاكرة المصريين.. يوم ان تصدي رجال الشرطة للاحتلال الانجليزي بمحافظة الاسماعيلية وقدموا أنفسهم وأرواحهم فداء لهذا الوطن.. فضحوا بدمائهم لتظل مرفوعة الرأس  عيدا للشرطة   من كل عام تخليدا لشهداء معركة الصمود ضد المستعمر البريطاني.. حيث وصلت قمة التوتر بين مصر وبريطانيا إلي حد مرتفع عندما اشتدت أعمال التخريب والأنشطة الفدائية ضد معسكراتهم وجنودهم وضباطهم في منطقة القنال فكانت الخسائر البريطانية نتيجة العمليات الفدائية فادحة، خاصة في الفترة الأولي، وكذلك أدي انسحاب العمال المصريين من العمل في معسكرات الإنجليز إلي وضع القوات البريطانية في منطقة القناة في حرج شديد.

مكاتب التسجيل

وحينما أعلنت الحكومة عن فتح مكاتب لتسجيل أسماء عمال المعسكرات الراغبين في ترك عملهم مساهمة في الكفاح الوطني سجل 91 572 عاملاً أسماءهم في الفترة من 16 أكتوبر 1951 وحتي 30 من نوفمبر 1951
كما توقف المتعهدون عن توريد الخضراوات واللحوم والمستلزمات الأخري الضرورية لإعاشة ثمانين ألف جندي وضابط بريطاني..فانعكس ذلك في قيام القوات البريطانية بمجزرة الاسماعيلية التي تعتبر من أهم الأحداث التي أدت إلي غضب الشعب والاسراع بالثورة في مصر عام 1952.

ووفق ما تم تأريخه أقدمت القوات البريطانية علي مغامرة أخري لا تقل رعونة أو استفزازاً عن ممارساتها المعروفة منذ بداية الاحتلال وفي صباح يوم الجمعة 25 يناير 1952 استدعي القائد البريطاني بمنطقة القناة »البريجادير أكسهام- ضابط الاتصال المصري، وسلمه إنذارًا بأن تسلم قوات البوليس »‬الشرطة»‬ المصرية بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية، وتترك المحافظة والثكنات، وترحل عن منطقة القناة كلها. والانسحاب إلي القاهرة بدعوي أنها مركز إخفاء الفدائيين المصريين المكافحين ضد قواته في منطقة القنال.

وكان الرد حاسما ورفضت المحافظة الإنذار البريطاني وأبلغته إلي وزير الداخلية »‬فؤاد سراح الدين باشا» الذي أقر موقفها، وطلب منها الصمود والمقاومة وعدم الاستسلام.

بداية المعركة

في يوم الجمعة 25 يناير 1952 اقدم الاستعمار البريطاني علي ارتكاب مجزرة وحشية لا مثيل لها.. ففي فجر هذا اليوم تحركت قوات بريطانية ضخمة تقدر بسبعة ألاف ضابط وجندي من معسكراتها إلي شوارع الاسماعيلية وكانت تضم عشرات من الدبابات والعربات المدرعة ومدافع الميدان وعربات اللاسلكي واتجهت هذه الحملة العسكرية الكبيرة إلي مبني محافظة الاسماعيلية وثكنة بلوكات النظام التي تجاورها واللتين لم تكن تضمان اكثر من850 ضابطا وجنديا حيث ضربت حولهما حصارا محكما.

وقدم الجنرال اكسهام قائد القوات البريطانية في الاسماعيلية في منتصف الساعة السادسة صباحا انذارا إلي ضابط الاتصال المصري، المقدم شريف العبد، طلب فيه ان تسلم جميع قوات الشرطة وبلوكات النظام في الاسماعيلية اسلحتها وان ترحل عن منطقة القناة في صباح اليوم نفسه بكامل قواتها، وهدد باستخدام القوة في حالة عدم الاستجابة إلي انذاره. وقام اللواء احمد رائف قائد بلوكات النظام‏ وعلي حلمي وكيل المحافظة بالاتصال هاتفيا علي الفور بوزير الداخلية انذاك فؤاد سراج الدين في منزله بالقاهرة فأمرهما برفض الانذار البريطاني ودفع بالقوة والمقاومة حتي اخر طلقة واخر رجل.

وفي السابعة صباحا بدأت المجزرة الوحشية وانطلقت مدافع الميدان من عيار 25 رطلا ومدافع الدبابات (السنتوريون) الضخمة من عيار 100 ملليمتر تدك بقنابلها مبني المحافظة وثكنة بلوكات النظام بلا شفقة أو رحمة

وعندما استشعر القائد البريطاني في القناة الاهانة برفض القرار أمر قواته ودباباته وعرباته المصفحة بمحاصرة قسم بوليس »‬شرطة» الاسماعيلية بعد أن أرسل إنذارا لمأمور قسم الشرطة يطلب فيه منه تسليم أسلحة جنوده وعساكره، غير أن ضباط وجنود البوليس »‬الشرطة» رفضوا قبول هذا الانذار.

ووجه العدو نيران دباباته ومدافعه صوب القسم وأطلق البريطانيون نيران قنابلهم بشكل مركز وبشع بدون توقف ولمدة زادت علي الساعة الكاملة، ولم تكن قوات البوليس »‬الشرطة» مسلحة بشيء سوي البنادق العادية القديمة.

شجاعة ضد الاحتلال

وقبل غروب شمس ذلك اليوم حاصر مبني قسم البوليس »‬الشرطة» الصغير مبني المحافظة في الاسماعيلية، سبعة آلاف جندي بريطاني مزودين بالأسلحة، تدعمهم دباباتهم السنتوريون الثقيلة وعرباتهم المصفحة ومدافع الميدان، بينما كان عدد الجنود المصريين المحاصرين لا يزيد علي ثمانمائة في الثكنات وثمانين في المحافظة، لا يحملون غير البنادق.

واستخدم البريطانيون كل ما معهم من الأسلحة في قصف مبني المحافظة، ومع ذلك قاوم الجنود المصريون واستمروا يقاومون ببسالة وشجاعة فائقة ودارت معركة غير متساوية القوة بين القوات البريطانية وقوات الشرطة المحاصرة في القسم ولم تتوقف هذه المجزرة حتي نفدت آخر طلقة معهم بعد ساعتين طويلتين من القتال، سقط منهم خلالهما ٥٦ شهيدًا و80 جريحا وهم جميع أفراد جنود وضباط قوة الشرطة التي كانت تتمركز في مبني القسم،

وبعد أن تقوضت الجدران وسالت الدماء أمر الجنرال اكسهام بوقف الضرب لمدة قصيرة لكي يعلن علي رجال الشرطة   المحاصرين في الداخل انذاره الاخير وهو التسليم والخروج رافعي الايدي وبدون اسلحتهم والا فإن قواته ستستأنف الضرب بأقصي شدة.

مذبحة

وتملكت الدهشة القائد البريطاني المتعجرف حينما جاءه الرد من ضابط شاب صغير الرتبة لكنه متأجج الحماسة والوطنية وهو النقيب مصطفي رفعت فقد صرخ في وجهه في شجاعة وثبات: لن تتسلموا منا الا جثثا هامدة.

واستأنف البريطانيون المذبحة فانطلقت المدافع وأخذت القنابل تنهمر علي المباني حتي حولتها إلي انقاض بينما تبعثرت في اركانها الاشلاء وتخضبت أرضها بالدماء الطاهرة.

أبطال صامدون

وبرغم ذلك ظل أبطال الشرطة   صامدين في مواقعهم يقاومون ببنادقهم العتيقة من طراز (لي انفيلد) اقوي المدافع واحدث الاسلحة البريطانية حتي نفدت ذخيرتهم وسقط منهم في المعركة 50 شهيدا و80 جريحا، بينما سقط من الضباط البريطانيين 13 قتيلا و12 جريحا واسر البريطانيون من بقي منهم علي قيد الحياة من الضباط والجنود وعلي رأسهم قائدهم اللواء احمد رائف ولم يفرج عنهم الا في فبراير 1952.

الجنرال اكسهام

ولم يستطع الجنرال اكسهام ان يخفي اعجابه بشجاعة المصريين فقال للمقدم شريف العبد ضابط الاتصال: لقد قاتل رجال الشرطة   المصريون بشرف واستسلموا بشرف ولذا فإن من واجبنا احترامهم جميعا ضباطا وجنودا.

وقام جنود فصيلة بريطانية بأمر من الجنرال اكسهام بأداء التحية العسكرية لطابور رجال الشرطة   المصريين عند خروجهم من دار المحافظة ومرورهم امامهم تكريما لهم وتقديرا لشجاعتهم.
وانتشرت أخبار الحادث في مصر كلها، واستقبل المصريون تلك الأنباء بالغضب والسخط، وخرجت المظاهرات العارمة في القاهرة، واشترك جنود الشرطة مع طلاب الجامعة في مظاهراتهم في صباح السبت 26 من يناير 1952.

وانطلقت المظاهرات تشق شوارع القاهرة التي امتلأت بالجماهير الغاضبة، حتي غصت الشوارع بالجماهير الذين راحوا ينادون بحمل السلاح ومحاربة الإنجليز وكانت معركة الاسماعيلية، الشرارة التي غيرت التاريخ.