«ناصر» يعترف في أوراقه الخاصة: «عيبي أنى دوغري ولا أعرف التملق»

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر

البحث فى أوراق الرئيس الخاصة يكشف  عن كلمات بين السطور تصف ملامحه وهمومه وعاطفته نحو أحبائه وحبه الأعظم لمصر.. فالطفل جمال عبد الناصر كان طفلا شقيا أمضى سنواته الدراسية الأولى متنقلا بين مدارس الإسكندرية حيث كان يعيش والده ومدارس القاهرة حيث كان يعيش عمه. لم تكن حياة سهلة لطفل نشأ فى عائلة فقيرة وفقد أمه وهو فى الثامنة من العمر وأن ترتبط إرادته ورغبته فى التعليم بأن يعيش كل هذا الشقاء. وأن يحرص على أن يتشكل وعيه الوطنى مبكرا فيكون متظاهرا فى وجه الإحتلال ثم زعيما لزملائه الطلبه يحثهم على النضال. الباحث فى أوراق الزعيم يتملكه الإحساس بأن جمال عبد الناصر كان يعرف أن هناك أجيالا ستأتى من بعده وتبحث فى أوراقه فلم يبخل علينا بكتابة كل شئ. فنقل بخط يده قصيدة ليلة البدر للعقاد تحت عنوان «أحسن ما قرأت» ثم نقل قصة بليغة بعنوان «حديث قطين» لمصطفى صادق الرافعى وكتب عنها «بديعة جدا».

الأب عبد الناصر حسين استحوذ على النصيب الأكبر من رسائل الإبن جمال الذى كان يراسله طوال فترة دراسته فى الكلية الحربية وبعد تخرجه وخروجه فى مهمات كثيرة أخطرها كانت حرب فلسطين. ودائما ما كان يبدأ جمال رسائله لوالده بجملة «بعد تقبيل أياديكم الكريمة» وبعد زواجه وانجابه لمنى وهدى كان يلح على والده باستمرار للحضور وزيارته فى القاهرة. وعندما سافر جمال لحرب فلسطين أرسل له الأب تلغرافا فى 15 مايو 1948.
كان قدر عبد الناصر أن يكون أبا لإخوته منذ الصغر فقد تحمل مع والده مصاريف دراسة إخوته الصغار حتى أنهوا تعليمهم. حتى وهو فى فلسطين كان اخوته الليثى وعز العرب ومصطفى وشوقى يراسلونه بإستمرار ويخبرونه بموعد امتحاناتهم ونتائجهم. وارسل جمال خطابا لوالده فى سبتمبر 1949 يخبره انه قدم استمارة لالتحاق اخيه مصطفى بالمدرسة العسكرية وخطابا آخر يبلغه فيه بدفع المصاريف وتوصية الضباط على أخيه. وأرسل له أخوه عز العرب رسالة يخبره أن والده قدم إجازة المعاش وسيسافر لزوجته وبناته فى القاهرة ليمكث معهم حتى يعود من الحرب. كما كان يرسل جمال عبد الناصر رسائل لعمه خليل حسين والذى أرسل زوجته توحيدة لرعاية أسرته وهو فى الحرب.
وفى خطابات جمال لزوجته تحية كان يوصيها دائما ان تكرم والده وأخوته.
ورغم حزن الزوجة الدائم من غياب زوجها وخوفها عليه واشتياقها له، كانت رسائل الزوجة تحية لا تخلو من الدعابة فكتبت له وهو فى فلسطين أن إبنته هدى «كل يوم تقول انا هكتب لبابا أقوله هدى دح ومنى كخ».
جمال الصديق
كان جمال الصديق أكثر تعبيرا عن همومه وعن ذاته وأفكاره وطموحه مع أصدقائه..ففى عام 1935 كتب لصديقه على وهو يدعوه للتباحث فى منزله من أجل الاستعداد لمواجهة العدو وكتب قوله تعالى: « وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة»..وتسأل:» أين القوة التى سيستعدون بها وكتب قائلا : إن الموقف دقيق ومصر فى موقف أدق ونحن تقريبا نودع الحياة ونصافح الموت فإن بناء اليأس عظيم «. ومن أكثر الأصدقاء الذين تحدث معهم كان صديقه حسن النشار فكتب يشكو له من والده وأنه بعدما اتفق معه على دفع نصف مصاريف اخوته الدراسية الليثى وعز العرب طلب منه كل المال وهو ليس فى استطاعته. وطلب من صديقه التوسط لأخيه الليثى أن يلتحق بالتعليم المجانى فى المدرسة للاقلال من المصاريف. وفى خطاب آخر يأخذ رأيه فى مسألة الزواج حيث كان رافضا للفكرة بسبب الحرب والحياة غير المستقرة التى يعيشها.
ومن أكثر الرسائل الحزينة الغاضبة التى كتبها جمال كانت رسالته المؤرخة فى عام 1941التى يشكو لصديقه ويخبره فيها أنه ثائر ثورة داخلية عائلية شاك عمه الذى ارسل له خطابا شديد اللهجة لأنه كتب له خطابين ولم يصله الرد. وأخبر صديقه أنه أرسل لعمه ردا يؤلمه.لأنه يعتقد أن جمال عبد الناصر يستمتع ويعيش كما يتصورون عن الضباط وليس له مشاغل فى الحياة. وان لا حد يعرف الواقع الذى يعيشه جمال وهو عبارة عن» كتلة من الهموم والآلام «.وشكى لصديقه من مصاعب يواجهها فى عمله قائلا:» إن كل عيبى إنى دغرى لا أعرف الملق ولا الكلمات الحلوة ولا التمسح بالأذيال وهى صفات تسوء الرؤساء. يحزننى يا حسن أن سياستهم نجحت نجاحا باهرا فهم يصهرون نفوس الشبان. والجيل الجديد أفسده الجيل القديم فأصبح منافقا متملقا، يحزننى أن اقول أننا نسير إلى الهاوية». ورد النشار برسالة طويلة فند فيها ما قاساه جمال وطلب منه أن لا يثور على عائلته بل أن يبقى كريما معهم كما كان دائما.. وفى رسالة أخرى فى فبراير عام 1942 كتب جمال لصديقه حسن كيف كانت حادثة العلمين «الطعنة التى ردت الروح إلى بعض الأجساد فى الجيش وعرفتهم أن هناك كرامة يجب أن يستعدوا للدفاع عنها». وقبل أن ننهى استعراض هذه الفترة لفت نظرى كشف حساب لجمال عبد الناصر فى البنك مؤرخ 30 -6- 1948 وكان 132 جنيها.
جمال رئيسا للوزراء
بعد قيام ثورة يوليو 1952 وما تبعها من أحداث نعرفها جميعا سنجد بين الوثائق رسالة تهنئة من الرئيس محمد نجيب إلى البكباشى أركان حرب جمال عبد الناصر يبلغه فيها بتعديل الوزارة وإسناد منصب رئيس الوزراء ووزير الداخلية إليه فى 21 يونيه 1953. ووثيقة أخرى بخط يد جمال عبد الناصر كتب فيها ملاحظاته أو يمكننا القول الخطوط العريضة التى شكلت فترة حكمه فى السنوات التالية فجمع بين بناء جمهورية مصر وحلم الوحدة العربية أما القومية العربية فكتب عنها أنه يريد مجتمعا اشتراكيا عربيا وذلك لن يأتى قبل تحرر الامة العربية وقيام كيان سياسى واحد.
ومن أهم الوثائق فى الخمسينيات قرار مجلس قيادة الثورة بترشيح جمال عبد الناصر لرئاسة الجمهورية المؤرخ فى 16يناير عام 1956 على أن يتم الاختيار فى استفتاء يجرى السبت 23 من يوليه 1956.
إننا لا نساوم على حريتنا
ومن أجمل ما كتب جمال عبد الناصر عن الخلافات التى وقعت قبل التوقيع على معاهدة الجلاء خطابا لم ينشر له بعنوان: «إننا لا نساوم على حريتنا» وكأنه عاد لجمال الطالب الثائر المتظاهر الذى خرج لطرد الأنجليز..فكتب يقول : فإننا نعرف أن الشعوب التى تساوم على حريتها توقع فى نفس الوقت وثيقة عبوديتها..إننى أعلنها عالية داوية، حتى يسمعها المستعمر، أن مصر قد أجمعت على أن تصل إلى حريتها وإستقلالها مهما كانت الصعاب ومهما كانت المشاق. فنحن لا نعمل لانفسنا بل لوطننا فالوطن باق ونحن زائلون».