ورقة وقلم

ياسر رزق يكتب: مصر وروسيا.. صداقة لا تعرف الأجندات الخفية

الكاتب الصحفي ياسر رزق رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم
الكاتب الصحفي ياسر رزق رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم
الروس أقرب إلى لاعبي الشطرنج.
يفكرون ملياً قبل أي حركة. وحينما يقدمون، لا يتراجعون، فلا مجال عندهم لعودة إلى الوراء.
ربما يراهم البعض من فرط التدبر مترددين، لكن طبيعتهم أن يحسبوا خطواتهم، وأن يتحسبوا لما بعدها. لذا رهاناتهم ليست خيار مقامرة أو نزعة مغامرة، إنما هي نتاج قراءة متأنية لمشهد ورصد دقيق لرقعة لعبة الأمم. وغالباً ما لا يخيب لهم رهان.
شىء من هذا رسم مسار العلاقات المصرية الروسية على مدار ٤٦ شهراً مضت منذ أول لقاء جمع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، بالمشير عبدالفتاح السيسى فى منتصف فبراير عام ٢٠١٤ حينما كان قائداً عاماً للقوات المسلحة، وحتى لقائهما الثامن بالقاهرة الأسبوع الماضى، وما جرى فيه من توقيع على اتفاق إنشاء المحطة النووية بالضبعة، الذى نحسبه مشروع القرن المصرى، وما أعقبه من توقيع على بروتوكول استئناف الرحلات الجوية بين روسيا ومصر بعد طول انتظار.
،،،،،،
على مدار ٦٥ عاماً من علاقات الصداقة المصرية السوفيتية ثم الروسية، شابت تلك العلاقات بعض جفوات فى عهد الرئيس عبدالناصر، ثم اعترتها هزة عنيفة فى عهد الرئيس السادات، ثم استقرت مع برودة جمود فى عهد الرئيس مبارك، غير أنها لم تشهد مثلما شهدت فى عهد الرئيس الإخوانى محمد مرسى من تردٍ بل وهوان تجسد فى زيارة مرسى الكارثية إلى سوتشى فى روسيا قبيل ثورة يونيو بشهرين ونصف الشهر، وما أحاط بها من عدم ترحاب برئيس ينتمى إلى جماعة تصنفها روسيا كمنظمة إرهابية، وبنظام يقتاد مصر خارج سياق تاريخها ويقتلعها من اعتبارات جغرافيتها. وكان مطلب مرسى الرئيسى خلال الزيارة رفع جماعة الإخوان من القائمة الروسية للمنظمات الإرهابية.
وقتها.. نُقل عن بوتين قوله عن مرسى: »إنه نوعية من الرؤساء الذين لا يعمرون طويلاً!«.
تابعت القيادة الروسية باهتمام بالغ مقدمات ثورة ٣٠ يونيو، ومجرياتها، وبيان ٣ يوليو، الذى عقب بوتين عليه قائلاً: «إن هذا الرجل أنقذ بلاده التى كانت على شفير حرب أهلية».
على البعد.. كان الرئيس الروسى يرقب تطورات الأوضاع فى مصر، خلال المرحلة الانتقالية التى أعقبت ثورة يونيو، وجرى الترتيب لاجتماع (٢+٢) بين وزراء الدفاع والخارجية فى البلدين يعقد فى موسكو يومى ١٢ و١٣ فبراير ٢٠١٤.
فى تلك الزيارة.. التقى بوتين لأول مرة بالمشير السيسى وتم تدشين برنامج جديد للتعاون العسكرى بين البلدين يتسع فى مجالاته من التدريبات المشتركة إلى التسليح، وكانت طلبات القائد العام المصرى مجابة.
وتعبيراً عن تقديره للسيسى، أهداه بوتين سترة عسكرية مزينة بالنجمة الكبرى الحمراء، أى برتبة الماريشال.
ثم قال له: «أعرف أنكم اتخذتم قراركم بالترشح لرئاسة مصر. إنه قرار مسئول أن تحملوا على عاتقكم مصير الشعب المصرى».
،،،،،،
بعد ٦٥ يوماً من انتخابه رئيساً لمصر.. زار الرئيس السيسى روسيا. للمفارقة كانت الزيارة لمنتجع سوتشى الذى شهد قبلها بعام وأربعة أشهر زيارة مرسى الكارثية.
طوال ١٢ ساعة لم يفارق بوتين ضيفه الرئيس السيسى. دامت المباحثات من الصباح إلى الليل، فى القرية الأوليمبية، وعلى طائرة هليكوبتر، وفى المقر الرئاسى بسوتشى، وعلى الفرقاطة موسكو، ثم على عشاء خاص منفرد جمع الرجلين بدون مترجم.
فى جلسة المباحثات الموسعة التى تمت بحضور أعضاء الوفدين، جرى وضع مشروعات التعاون المصرى الروسى المستقبلية وفق جداول زمنية محددة. كانت تعليمات بوتين أن يستقبل الرئيس السيسى بحفاوة لم يسبق أن قوبل بها أى رئيس زار روسيا. بدءاً من استقبال طائرته عند دخولها الأجواء الروسية بسرب من مقاتلات السوخوى ترحيباً بزيارته.
قرر الرئيس الروسى إهداء مصر لنش صواريخ طراز «مولينا»، وأن يكون اللنش إحدى القطع البحرية التى ستبحر فى قناة السويس الجديدة عند افتتاحها.
وفى ختام الزيارة.. قال بوتين للسيسى وهو يشد على يديه: «نحن معك.. ندعم كل خطواتك.. كنت أعرف، بل كنت متأكداً أنك ستفوز فى انتخابات الرئاسة.. إننى أعلم أن شعبك يعلق عليك الأمل، وأنت كما سمعتك وعرفتك على قدر هذا الأمل».
،،،،،،
اللقاء الثالث بين الرجلين، كان فى القاهرة فى فبراير عام ٢٠١٥. ومثلما قوبل السيسى بحفاوة غير مسبوقة فى روسيا، كان استقبال بوتين غير مسبوق لأى رئيس زار مصر.
كانت الرؤى خلال المباحثات متوافقة على القضايا الإقليمية، وكان الاتفاق تاماً على فتح آفاق أرحب للتعاون الثنائى فى إنشاء منطقة صناعية روسية فى مصر، وتوقيع بروتوكول مبدئى لإنشاء محطة نووية بالضبعة لتوليد الكهرباء والإسراع فى إقامة منطقة للتجارة الحرة بين مصر والاتحاد الجمركى الأوراسى الذى يضم روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان.
وفى أعلى بقعة بالقاهرة، فى المطعم الزجاجى ببرج الجزيرة، جرت مباحثات منفردة على العشاء بين الرئيسين زادت من علاقتهما الشخصية توطيداً وإعجاباً متبادلاً.
كان بوتين يرى فى السيسى نفسه حينما تولى رئاسة روسيا بعدما شارفت على الانهيار، وكان السيسى يرى فى بوتين نموذجاً لقائد استطاع أن ينتشل بلاده من مصير مظلم وأن يعيدها إلى مكانتها كقوة عظمى.
،،،،،،
تعاقبت لقاءات الرئيسين السيسى وبوتين.. بموسكو فى مايو ٢٠١٥ خلال احتفالات روسيا بالذكرى السبعين لانتصارها فى الحرب العالمية الثانية، وفى أغسطس من نفس العام فى زيارة رسمية للرئيس السيسى، ثم فى سبتمبر ٢٠١٦ خلال قمة العشرين التى جرت بمدينة هانغجو الصينية، ويومها قال بوتين للسيسى: «تعلمون ما أكنه لكم من تقدير واحترام شخصى، وإننى حريص على علاقات الصداقة الشخصية التى تجمعنا، مثلما أحرص على استمرار علاقات الشراكة الخاصة التى تربط روسيا بمصر، وأعمل على دعمها وتقويتها».
وكان اللقاء السابع بين الرئيسين، فى الصين أيضا، خلال مشاركتهما فى قمة دول «البريكس» بمدينة «شيامن» منذ ثلاثة أشهر.
فى ذلك اللقاء الذى أعقبته مشاورات بين الرئيسين على مأدبة العشاء التى جمعت قادة دول «البريكس»، وجه الرئيس السيسى الدعوة لزيارة مصر لحضور التوقيع على اتفاق إنشاء المحطة النووية بالضبعة، الذى كانت ملامحه النهائية يومها على وشك الاكتمال، ورحب بوتين بالدعوة وقال إنه مهتم بزيارة مصر والمشاركة فى هذه المناسبة الكبرى.
،،،،،،
يوم الإثنين الماضى، جاء الرئيس بوتين إلى القاهرة فى زيارته الثانية إلى مصر، وجرى اللقاء الثامن بين الرئيسين.
كان بوتين حريصاً على أن يأتى خصيصاً إلى مصر لحضور توقيع اتفاق إنشاء المحطة النووية بالضبعة بالتعاون بين البلدين، من أكثر من زاوية.
أولاً: أن مشروع المحطة النووية هو تجسيد للتعاون الاستراتيجى المصرى الروسى فى هذا العهد الجديد من العلاقات بين البلدين، مثلما كان السد العالى نموذجا على هذا التعاون فى الستينيات فى عهد الرئيسين عبدالناصر وخروشوف.
وثانياً: أنه يعلم أن إقدام الرئيس السيسى على توقيع هذا الاتفاق، يؤكد بالفعل والعمل حرصه على استقلال القرار الوطنى المصرى، الذى يشدد عليه السيسى فى كل تصريحاته ومواقفه.
وثالثاً: أنه يقدر فى الرئيس السيسى حرصه على مصلحة بلاده، الذى تجسد فى متابعته لكل تفصيلة فى الاتفاق، وإشرافه شخصياً على المفاوضات ليتم المشروع بأفضل شروط مالية وتسهيلات فى السداد، وبأسرع زمن ممكن، وقبل كل ذلك، بأحدث تقنية وأعلى معدلات أمان مع نقل التكنولوجيا والخبرة الروسية فى هذا المجال الحيوى للكوادر المصرية.
ووفقا للاتفاق، ستبدأ إنشاءات المحطة النووية، بعد الانتهاء من التصميمات الهندسية والفنية ومراجعتها بمعرفة الجهات المختصة المصرية، ومن المفترض أن تبدأ المحطة النووية بمفاعلاتها الأربعة وقدرتها الإجمالية ٤٨٠٠ ميجاوات فى التشغيل التجارى خلال العام المالى (٢٠٢٦/٢٠٢٧)، ولن تبدأ مصر فى سداد أقساط القرض إلا بعد فترة سماح ١٣ عاما، ليتم السداد بعدها على مدى ٢٢ عاما، بفائدة فى حدود ٣٪ من عائد بيع الكهرباء التى ستنتجها المحطة. ومن المقرر أن يزداد المكون المحلى المصرى فى مفاعلات المحطة من ٢٠٪ فى المفاعل الأول، ليصل تدريجيا إلى ٣٥٪ فى المفاعل الرابع.
وتعد فترة الثمانى سنوات التى سيتم خلالها إنشاء المحطة وتصنيع مفاعلاتها وتركيبها وتشغيلها، زمناً قياسياً عالمياً غير مسبوق.
،،،،،،
مشروع القرن المصرى، الذى يعد محطة فارقة فى التعاون بين مصر وروسيا، هو واحد من الإنجازات التى لا يدرك حق قدرها إلا الأجيال المقبلة، ولا ينصفها فى مقدارها إلا المستقبل، تماماً مثل مشروع السد العالى الذى جوبه منذ أول ضربة فأس فى صخور أسوان، وحتى بعد مرور عشر سنوات على افتتاحه، بانتقادات جاهلة أو قاصرة، بل ومغرضة، باطنها هو الرغبة فى حرمان مصر من النهوض والتنمية الاقتصادية والعلمية.
،،،،،،
زيارة الساعات الأربع، التى قام بها الرئيس بوتين للقاهرة يوم الإثنين الماضى لم تقتصر على حضور توقيع الاتفاق التاريخى لإنشاء مشروع القرن فى مصر.
مباحثات القمة بين الرئيسين فى قصر الاتحادية، كانت حافلة بدفعات أخرى للتعاون بين البلدين، الذى شهد فى الشهور التسعة الأولى من هذا العام زيادة فى التبادل التجارى قدرها ٤٠٠ مليون دولار، واتفق الرئيسان على الإسراع بمفاوضات اتفاق التجارة الحرة بين مصر والمنطقة الأوراسية، وإنشاء المنطقة الصناعية الروسية فى منطقة شرق بورسعيد بإقليم قناة السويس، باستثمارات ٧ مليارات دولار، لتكون أكبر مركز صناعى فى المنطقة، بالإضافة إلى تشجيع الصادرات الزراعية المصرية، وصادرات القمح الروسية إلى مصر.
فى مجال التعاون الأمنى والعسكرى، اتفق الرئيسان على تعزيز تبادل المعلومات بين الأجهزة المعنية فى البلدين للتصدى لخطر الإرهاب، ومنع انتقال الإرهابيين من مناطق التوتر إلى مناطق أخرى.
ومن المقرر أن يعلن قريباً عن وصول الدفعات الأولى لصفقات سلاح روسية من المقاتلات المتطورة وطائرات الهليكوبتر الهجومية، فى إطار تعاون مستمر فى الأفرع الأخرى للقوات المسلحة.
،،،،،،
يقتصد الروس عادة فى إسباغ الأوصاف على نتائج مباحثاتهم، لكن الرئيس بوتين فى مؤتمره الصحفى المشترك مع الرئيس السيسى قال بوضوح إن هناك تطابقاً فى وجهات النظر بينهما إزاء القضايا الإقليمية، وتوافقا فى الرؤى تجاه سبل التعامل معها.
بالنسبة لسوريا.. كانت الرؤية المصرية الروسية واحدة منذ البداية، وهى الحفاظ على وحدة البلاد وسلامتها الإقليمية وتماسك مؤسسات دولتها، ودعم مسار التفاوض للتوصل إلى حل سياسى شامل. كان الموقف واحداً من عدم السماح بسقوط الدولة السورية فريسة للإرهاب ووصول التطرف إلى الحكم.
لروسيا روابط ممتدة مع سوريا ومصالح استراتيجية فى البحر المتوسط.
ولمصر  وشائج لا يمكن فصمها مع سوريا، فهى إقليمها الشمالى فى زمن الوحدة وشريكها فى حرب أكتوبر، وتربطهما علاقات ذات بُعد استراتيجى يعبر عنه التاريخ وتحكمه الجغرافيا.
بالنسبة لليبيا.. تدعم مصر المسار السياسى الساعى إلى تهيئة الأجواء لإنهاء المرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، وتبذل جهودها لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية.
وبدا خلال المباحثات، أن روسيا هى أول دولة تستجيب للدعوة المصرية بإزالة قيود تصدير السلاح إلى الجيش الليبى ليتمكن من دحر الإرهاب، وأعلن مسئولون روس عقب زيارة بوتين أن روسيا تدرس تخفيف هذا الحظر.
فى الأزمات الأخرى القائمة والمحتملة، كان موقف البلدين متماثلا فى ضرورة التوصل لحلول سياسية لها، ونزع فتائل صراعات لا تحتملها المنطقة، وشعوبها فى غنى عنها.
زيارة بوتين للقاهرة واكبت اعلان الرئيس ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، الذى صب الزيت على نيران الشرق الأوسط، وأجهض أى مساعٍ لاحياء عملية السلام.
الموقف الروسى الذى عبر عنه الرئيس بوتين يرى أن إعلان ترامب الذى يستبق نتائج المفاوضات عديم الجدوى ومن شأنه زعزعة الاستقرار، ويدعو إلى استئناف مفاوضات السلام حول كل القضايا بما فيها القدس بما ينسجم مع مقررات المجتمع الدولى.
وهو موقف ينسجم مع الموقف المصرى الداعى إلى انسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلت فى حرب ١٩٦٧، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، والرافض لإعلان ترامب الذى يعقد الوضع فى المنطقة ويقوض فرص السلام.
،،،،،،
أسلوب تفكير لاعب الشطرنج ربما كان الدافع وراء عدم توقيع بروتوكول استئناف الرحلات الجوية بين روسيا ومصر خلال زيارة بوتين للقاهرة.
لعل بوتين، كان يرى أن اقتران توقيع البروتوكول مع توقيع اتفاق إنشاء  المحطة النووية، يعطى إيحاء بارتباط غير صحيح بينهما.
لذا اكتفى بأن يشيد بالجهود «الجبارة»، التى بذلتها مصر لرفع مستوى الأمن فى مطاراتها، وأن يشير إلى قرب توقيع بروتوكول حكومى فى هذا الشأن.
توقيع البروتوكول الذى تم أمس الأول بين شريف فتحى وزير الطيران المدنى ومكسيم سوكولوف وزير النقل الروسى فى موسكو، يفتح المجال أمام استئناف الرحلات بدءا من فبراير المقبل بين القاهرة وموسكو، ثم بين المدن الروسية والمدن السياحية المصرية فى الربيع المقبل، وجاء البروتوكول ليغلق صفحة قاتمة عمرها أكثر من عامين، فى مجال واعد ومتسع للتعاون بين البلدين وهو السياحة، بعد حادث الطائرة الروسية الذى كان الغرض منه نسف التعاون المصرى الروسى وقطع الطريق على علاقات استراتيجية متنامية بين البلدين لا تروق لقوى إقليمية وكبرى!
،،،،،،
من بين كل زعماء العالم، يعد الرئيس بوتين أكثر من التقاه الرئيس السيسى فى مباحثات قمة خلال أقل من ٤ سنوات مضت، وأحسب الرئيس الروسى لم يلتق برئيس دولة بقدر ما التقى بالرئيس السيسى خلال هذه السنوات. حتى اللقاءات التى جمعت بينهما على هامش محافل دولية فى الصين كانت تستغرق فى كل مرة، رغم طبيعة المناسبات، أكثر من ساعة.
ومن بين كل القوى الكبرى فى العالم، تبدو علاقات مصر وروسيا، وكذلك علاقاتها بالصين، أقوى من أى تقلبات فى سماء العلاقات الدولية، ويبدو التعاون صادقا ومثمراً يبتغى مصلحة مشتركة، دون مشروطية، ودون أجندات خفية.