انتفاضة الحجارة| القدس..لعينيها سأقاوم

صورة من رويترز
صورة من رويترز
“سجّل برأسِ الصفحةِ الأولى..أنا لا أكرهُ الناسَ..ولا أسطو على أحدٍ.. ولكنّي إذا ما جعتُ..آكلُ لحمَ مغتصبي.. حذارِ، حذارِ من جوعي، ومن غضبي”.. درويش

محاولة تلو أخرى كانت تبدو دائمًا وكأنها خطوة صغيرة جدًا في طريق لا نهاية له. ربما كان الشعب الفلسطيني صاحب سقف المطالب الأقل والأصعب تحقيقًا على الإطلاق. فلا يمكنك أن تتخيل المشكلة الحقيقة في تحقيق مطلبين كـ«الأرض والسلام»، خاصة وإن كنت تملك الأولى ولا تسعى لعكس الثانية.

ليسوا شعبًا عُرف عنه حب القتل والدماء ولكنه شعبُ فرض عليه القتال وهو دائمًا.. كره له. هذا الشعب ذاته هو الذي إن غضب ونفذ صبره، أدخل للمعاجم لغة واصطلاحات لم تًعرف أو تُنقل عن أحد غيره. وأنت حتى لا تدري إن كان يمكنك أن تأخذ هذا على محمل إيجابي، إن كانت الكلمة.. «انتفاضة»

سمع العالم للمرة الأولى عن هذه الكلمة خلال منشورات تم توزيعها عقب الأحداث المتلاحقة التي أدت لتصاعد الأزمة الفلسطينية عام 1978، وعرفت فيما بعد باسم انتفاضة الحجارة، ولعدم وجود كلمة أخرى تعبر عمّا يحدث من قبل الشعب الفلسطيني الذي لم يستخدم سوى الحجارة في مواجهة أسلحة جيش الاحتلال الثقيلة، تم نقل الكلمة كما هي في وسائل الإعلام المختلفة عند الحديث عن مقاومة الشعب الفلسطيني.

قامت الانتفاضة الأولى لعدد من الأسباب غير المباشرة، وسبب واحد كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. فإلى جانب إهدار حقوق الفلسطينيين اقتصاديًا وسياسيًا وشعورهم بأنهم مواطني الطبقة الثانية داخل حدودهم وعلى أراضيهم، قام أحد الإسرائيليين ذات يوم بالاصطدام بمجموعة من العمال الفلسطينيين عمدًا بسيارته بقصد قتلهم داخل مدينة جباليا شمال قطاع غزة.

أدى الحادث إلى مقتل أربعة فلسطينيين بالإضافة لإصابة مجموعة آخرين، وفي صباح اليوم التالي خلال الجنازة، حدث ما يشبه الاحتجاج العفوي بين صفوف المشيعين، وبدؤوا بإلقاء الحجارة على نقطة تفتيش إسرائيلية كانت متواجدة بالقرب من مكان تواجدهم، الأمر الذي جعل جيش الاحتلال يشعر بالقلق وقام بتسديد عدد من الرصاصات في المقابل، وعندما سقط ضحايا فلسطينيون، اشتد القتال، الأمر الذي دفع الجبهة المعادية لطلب تعزيزات في مواجهته، وتصاعدت الأحداث بعد ذلك بشكلٍ لم يكن مُتوقعًا.

“سأظل أناضل لاسترجاع الوطن لأنه حقي وماضيّ ومستقبلي الوحيد… لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب… وجذور تستعصي على القلع” غسان كنفاني

الحقيقة أن هذه الانتفاضة إلى جانب كونها غير متوقعة، فقد كان هناك تقليل من أهميتها من جانب القوى الدولية التي كانت بدأت تُنحى الملف الفلسطيني جانبًا في تلك الفترة. إضافة إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها، إسحاق رابين لم يكن يتوقع قيام أي اشتباكات أو احتجاجات فلسطينية من أي نوع، وظن أن أيٍ ما كان يمكن أن يحدث وقتها فسيتم السيطرة عليه بسهولة.

أكثر من ذلك أنه في ظل استعار الأزمة واشتعالها، توجه رابين إلى نيويورك وكأن شيئًا لا يحدث؛ لكن فوجئ عندما وصل هناك بالحديث معه حول ما كان يسمى في ذلك الوقت بـ «انتفاضة» داخل الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي جعله يشعر بأهمية الموضوع دون معرفة أي معلومات عنها.

اضطر رابين بعد ذلك على عقد مؤتمر صحفي لتوضيح ما يحدث بين قواته والشعب الفلسطيني  فور وصوله إلى المطار؛ لكن نقص المعلومات المتوفرة لديه جعلته يرتكب خطأ كبيرًا، وهو تحميل مسئولية تصاعد الأحداث للجانبين السوري والإيراني، وهو ما تنافى في ذلك الوقت مع تصريحات القائم بأعماله خلال سفره، وزير الدفاع إسحق شامير، الذي حمل منظمة التحرير مسئولية التصعيد.

ما تم الإجماع عليه بعد ذلك، أنه لا توجد جهة حقيقة كانت تقف وراء الاشتباكات التي تحولت بعد ذلك على انتفاضة، فقد كان كل شيء عفويًا ومتراكمًا داخل الشعب الذي فاض به في ذلك الوقت فعبر عن غضبه بما أوتي من قوة.

“تسقُطُ الأجسادُ... لا الفِكرة” غسان كنفاني

استمرت الانتفاضة التي استهان بها العالم في بدايتها منذ ديسمبر 1987 حتى سبتمبر 1993، أي ما يقرب من الستة أعوام، فلم تهدأ إلا بعد أن تأكد الشعب الفلسطيني من انتباه العالم لغضبه وانتفاضته، وتأكده من اتخاذ عدد من الخطوات الدبلوماسية التي كانت ستعيد قضيته إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى.

كان الفلسطينيون يعون جيدًا قدراتهم وقدرات الأعداء الذين يواجهونهم، فلجئوا بقدر الإمكان إلى أساليب تساعدهم في إطالة الأحداث واستمرارها، فاستخدموا لأول مرة ما كان يُعرف بالعصيان المدني وكل ما له علاقة بالمقاومة السلمية، والأفكار التي كان يدعو إليها في ذلك الوقت، «مبارك عوض» المُتأثر بفلسفة مهاتما غاندي في اللاعنف.

ولكن رغم ذلك، فإن سقوط الضحايا كان أمرا حتميًا. وبحسب الإحصائيات فقد سقط نتيجة الاشتباكات التي استمرت على مدار ستة أعوام، 1,162 شهيد، بينهم حوالي 241 طفلا ونحو 90 ألف جريح ومصاب و15 ألف معتقل.

ساعد عدد من الأسباب السياسية التي كانت متواجدة في ذلك الوقت بالمنطقة والعالم إلى اتخاذ خطوات اُعتبرت من قبل الحكومات الدولية بادرة غير مسبوقة من الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى الكيان الإسرائيلي، والدولة الفلسطينية.

عدد من الخطوات والمباحثات والاجتماعات كان أهمها على الإطلاق مؤتمر مدريد الذي عقد في الفترة من 30 أكتوبر إلى 1 نوفمبر 1991 برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، بالإضافة لعدد من الدول العربية، على رأسها الأردن و‌لبنان و‌سوريا.

أدى مؤتمر مدريد ومباحثاته بعد ذلك إلى عقد اتفاقية أوسلو، وهو اتفاق سلام وقعته إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في مدينة واشنطن الأمريكية في 13 سبتمبر 1993، بحضور الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.

تعتبر اتفاقية أوسلو هي الأولى من نوعها للسلام، والتي ضمت كلا من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وأدت إلى عدد من النتائج التي اعتبرت إيجابية وتصب في صالح الجانب الفلسطيني في ذلك الوقت، ومن أهم النتائج التي تم الاتفاق عليها، الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، بالإضافة لانسحاب القوات الإسرائيلية خلال خمس سنوات من الأراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة على مراحل أولها أريحا وغزة.

كما أقرت إسرائيل بحق الفلسطينيين في إقامة حكم ذاتي عُرف فيما بعد بالسلطة الوطنية الفلسطينية.

وفي عام 1996، تم توقيع اتفاقية أخرى تسمى أوسلو 2، وفيها تم توسيع الحكم الذاتي الفلسطيني وتشكيل مجلس تشريعي كان بمثابة هيئة حكم ذاتي منتخب وفي 20 يناير سنة 1996، تم إجراء أول انتخابات رئاسية وتشريعية.

“ولعينيها،.. وإلى آخر نبض في عروقي، سأقاوم” سميح القاسم

تبعت الانتفاضة الأولى على مدار السنوات انتفاضتين ثانية وثالثة؛ لكن القضية الفلسطينية ما زالت تناضل للبقاء على طاولة المفاوضات رغم أنها «قتلت بحثًا» بحسب المتحدث باسم الرئاسة المصرية بسام راضي خلال تصريحات صحفية الخميس 7 ديسمبر، الذي أكد أن أي خطوة تالية تخص القضية الفلسطينية يجب أن تكون «فعلية» وتضم «إجراءات تنفيذية»، لا أية مفاوضات أو مباحثات أخرى تُعقد لبحث القضية لأن «كل شيء أصبح واضحًا».

ووسط دعوات لانتفاضة رابعة، تشهد المدن والقرى الفلسطينية منذ أمس الجمعة 8 ديسمبر عدد من الاشتباكات والتظاهرات على خلفية قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، واعتبارها العاصمة الرسمية لإسرائيل، الأمر الذي أشعل الغضب ليس في فلسطين فقط وإنما في العواصم العربية والإسلامية وأدى إلى خروج عدد من المظاهرات المنددة بالقرار.

وفي عدد من البيانات والتصريحات الرسمية، رفض عدد كبير من الدول القرار الأمريكي، وتم اعتباره «لاغي وباطل»، وقد يكون إعلان جديد للحرب بحسب عدد كبير من بيانات الإدانة.

والواقع أنه في كل مرة يظن فيها العالم أن القضية الفلسطينية تم تهميشها أو إزاحتها جانبًا نتيجة لوجود عدد من النزاعات أو التوترات، تعود بعد ذلك لفرض نفسها بقوة على الساحات الدبلوماسية والسياسية، وقبل أن ينتفض شعبها مرة أخرى معلنًا عن غضبه، ينتفض شيئ في العالم العربي بعد أن ظنوا كل الظن.. أنه قد نُسي منذ زمن.