أغرب قضية في الخمسينيات.. قضت المحكمة بإعدام الأب و«رفض المفتي»

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

كانت دموعه تغطي وجهه، وهو يحمل بين يديه القرآن الكريم، وأخذ يبكي بكاءً مريرًا، ليس خوفا من حكم الإعدام بشنقه، لكن بسبب أن المفتي طلب عدم تنفيذ الحكم، ومنحه قبلة الحياة.

 

هذه هي الواقعة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه السابقة الدينية الخطيرة، وأول مرة يعارض فيها القضاء رأي المفتي ولا يأخذ به، ونشرته تفاصيلها مجلة آخر ساعة عام 1954.

 

تفاصيل المأساة بدأت مع قيام أب بقتل طفليه بإغراقها، ثم إلقائهما في مياة البحر بالإسكندرية، وتوالت آراء الشيوخ وعلماء الأزهر، فمنهم من وافق وقال: «نعم» على رأي المفتي، والبعض الآخر رفض اعتماد رأي المفتي.

 

انتابت الأب لوثة، فقد حرم طفليه الصغيرين من الحياة، وأغلق أذنيه في وجه صرخاتهما البريئة التي جرفتها الأمواج، بعدما ألقى بهما في مياه البحر، وكأنه نزع قلبه من بين ضلعيه وهو يدير ظهره لهما ويمضي في طريقه إلى المقهى كي يلعب القمار، وبعدما أيضا تحرك الوحش الكامن بأعماقه، وأنهى حياة طفليه.

 

وانهار داخل زنزانته يريد الموت، معتقدا بأنه يكفر عن ذنبه الكبير، ولا يريد العيش حتى لا يزداد عذابه وآلامه.. كانت هذه واقعة قتل الأب لطفليه باختصار، وبعد أن أصدرت محكمة جنايات الإسكندرية حكمها بالإعدام شنقا، جاء رأي مفتي الإسكندرية آنذاك الشيخ أحمد علي الليثي نائب المحكمة الشرعية في الإسكندرية، بأنه لا يرى وجوب القصاص على الأب في مثل هذه الحالة لأنه لا يقتص من والد في قتل ولده، إذ أن الوالد سبب وجود الولد، وسبب إحيائه فلا يصح أن يكون الولد سببا في فنائه.

 

وقد توافقت النصوص الشرعية الواردة في كتب المذاهب على ذلك، ولم يخالف فيه إلا الإمام مالك، وبناء على هذه النصوص نرى أنه لا يعدم الأب، ولا يجب عليه القصاص في هذه الحالة.. هكذا كان رد المفتي على قاضي محكمة الجنايات، الذي أرسل في استشارته في حكم الإعدام.

 

لم يقتنع قاضي المحكمة برأي المفتي وقال: إن رأى المفتي مجرد رأي استشاري لا يجب أن تأخذ به المحكمة في حالة تعارضه مع القوانين الوضعية القائمة، وعليه حكمت المحكمة حضوريا بمعاقبة الأب المتهم بالإعدام شنقا
بينما قال المفتي: إنه حكم مما يقضي به المذهب الحنفي، ولا يعتقد أن من قواعد العدالة أن تسلب الحياة من البشر ما دام الله قد وهبها لهم، ولا يعتقد أن روح المدنية والتطور أن تقتص من الأب ما دامت السماء لا تبيح هذا القصاص، لقد شرع الله العقوبات للزجر والردع، ولكنه لم يشرع عقوبة لهذا الأب الذي يقتل أولاده.

 

وأشار المفتي في نهاية حديثه بيده قائلا: احكموا على هذا الأب بأي شيئ لكن لا تقتلوه لأن القانون السماوي يمنع ذلك ويحرمه تماما، ويستطيع الحاكم أن يحكم عليه بالسجن طوال حياته، أو يجلد أو يعذب، حتى يعود إلى انسانيته الضائعة، لكنه لا يملك أن يسلب منه حياته أنه سبب الوجود لابناء فكيف محرمه من الوجود؟!

 

وجاء رأي رجال الدين بمختلف مذهبهم كالآتي؛ حيث قال البعض منهم نعم لإعدام الأب، والآخر قال لا.

 

وفي البداية قال الشيخ عبدالرحمن تاج - شيخ الأزهر آنذاك - ومذهبه الحنفي: نعم.. لا مانع من الأخذ بالرأي القائل بوجوب القصاص في هذه الحالة لأنه يعتبرها من حالات القتل العمد، ولا يجب أن نفرق بين أب وقاتل، والمفتي على حق في فتواه بحكم القانون لكنه يرى أن تساير الشريعة أحكام التطور الحديث، ولا تقف جامدة أمام تطبيق النصوص.. إن هذا الرجل يستحق الموت لأنه تخلى عن أبوته.

 

فيما جاء رأي الشيخ صالح شرف (سكرتير الأزهر آنذاك) - ومذهبه مالكي- قائلا: يجب أن يقتل الأب الذي قتل أولاده متعمدا لأنه لم يحترم مبدأ الأبوة والحنان الطبيعي، والله يقول (النفس بالنفس، والعين بالعين)، ومذهب الإمام مالك هو الوحيد الذي يقف بجوار القانون ويريد مبدأ الحكم بالإعدام في هذه الحالة الشاذة، ولا يجب أن نخلط بين البربري المتوحشة والأبوة السامية.

 

في الوقت نفسه جاء رأي الشيخ عبدالرحمن حسن (وكيل الأزهر آنذاك) - ومذهبه شافعي: نعم لا تخففوا الحكم على هذا الأب الذي قتل أولاده لأنه وحش آدمي، صحيح أن المذاهب الثلاثة تعارض في ذلك، لكن الأقرب إلى المنطق هو المذهب المالكي الذي يقول إنه إذا أراد  قتله قتلا لا يشك في أنه أراد قتله، فإنه يقتل به، وظروف هذا الرجل توجب حرمانه من الحياة لأنه وحش آدمي.

 

وقال الشيخ الشافعي الظواهري - عميد كلية أصول الدين آنذاك ومذهبه شافعي: نعم مع أن هذا ضد مذهبي لكن إذا تحقق القصد السيئ وتوافر سوء النية عند الأب زالت صفة الأبوة والبنوة، لأن الأبوة تقتضي العطف، والبنوة تقتضي الخضوع، وهذا الرجل تخلى عن عطفه، ونسي أنه مسئول عن سلامة أولاده ولذلك يجب أن تعامله بما يتفق مع إنسانيته الضائعة.

 

هؤلاء قالوا: لا

 

وفي المقابل، دخل على خط الأزمة شيوخ آخرون، في مقدمتهم الشيخ الحسيني سلطان (وكيل الأزهر آنذاك)، ومذهبه شافعي، والذي قال: لا وحرام أن يقتل هذا الرجل لأن المذاهب اختلفت في القصاص من الأب الذي يقتل أولاده، لكنها اتفقت مع ضرورة أن يكفر عن خطيئته بالدية أو بالسجن، والأب سواء قتل أولاده أثناء التأديب أو لظروف أخرى فإن الشريعة تحرم القصاص تبعا للحديث الذي يقول (لا يقاد الوالد عن ولده).


ومن ناحية أخرى قال الشيخ عبداللطيف السبكي (مدير تفتيش بالأزهر آنذاك)، ومذهبه حنبلي: لا أوافق أبدا على إعدام هذا الأب، بل يجب أن تركه لضميره، ويكثر عن عمله في المستقبل بالأعمال الطيبة وهذا يتفق مع المذهب الحنفي الذي حكم به مفتي الإسكندرية تبعا لقانون 78 الصادر عام 1938، وأعتقد أنه مادام الله قد وهب الحياة لشخص فلا يجب أن نسلبها لأي سبب ومهما كانت الظروف.

 

والشيخ محمد محيي الدين - عميد كلية اللغة العربية ومذهبه حنفي – قال أيضًا: لا تقولوا الأب، ويجب أن نلتزم حدود الدين في أمثال هذه المسائل الدقيقة، ولابد أن هناك حكمة أرادها الشارع وراء تحريم القصاص في هذه الحالة، ولكن لا تتركوه حرا طليقا، بل يجب أن تخففوا حكم الإعدام، وتسجنوه مدى الحياة أو تحكموا عليه بالدية.

 

وفي النهاية قال الشيخ أحمد الطاهر هارون- نائب المحكمة الشرعية ومذهبه شافعي: لا تقتلوه ويحب أن يلغي حكم الإعدام الذي صدر ضد هذا الرجل، ويجب أيضا أن يلغي القانون الوضعي الذي يسبق حاليا في مصر، ويجعل رأي المفتي مجرد رأي استشارة وطالب بالعفو عن الأب القاتل.

 

المصدر: مركز معلومات أخبار اليوم