حكايات| الوجه الآخر لـ«الكفن».. منقذ أرواح الأبرياء 

الكفن له وجه آخر في الصعيد إذ ينقذة أرواح الأبرياء
الكفن له وجه آخر في الصعيد إذ ينقذة أرواح الأبرياء

تطالعنا الصحف في كثير من الأحيان بخبر عنوانه يكاد يكون شبه ثابت وهو «إنهاء خصومة ثأرية بين عائلتين»، جملة مكررة تمر مرور الكرام على القارئ العزيز، وربما تكون كل معلومات القارئ حول هذا الموضوع تتلخص في قيام أسرة القاتل بتقديم «الكفن» لأهل القتيل لإنهاء الخلافات الثأرية ووقف بحور الدم، من خلال جلسة صلح عرفية يحضرها شيوخ وكبار القبائل في المنطقة، وفي ظل حضور أمني مكثف حتى يكون الحضور شاهد على إنهاء الخصومة الثأرية وإتمام عملية الصلح، لكن ما لا يعرفه الكثير أن عملية تقديم الكفن ليست بالأمر الهين وتستغرق شهور وربما سنوات قبل اتخاذ القرار النهائي بشأنها.


عادات وتقاليد
تعتبر ظاهرة الأخذ بالثأر ظاهرةٌ قديمةٌ تمتد جذورها في صعيد مصر ثم انتقلت بمرور الزمن إلى الكثير من المحافظات والقبائل، خصوصا في المجتمعات والقرى التي تحكمها الأعراف والعادات والتقاليد التي تسيّر شؤون الحياة فيه، بل تحوّلت إلى نمط حياةٍ متكاملٍ منذ مئات السنين، وثقافةٍ اجتماعيةٍ لا يجوز التنازلُ عنها بين العديد من العائلات، التي لا تعتبر السجن بديلًا عن الثأر، فحق الدولة غير حقهم، وقانونها غير قانونهم، وعندما يطرح هذا الأمر على هذه المجتمعات، تجدهم يجيبون بتلقائية شديدة «القبر أضيق كثيرًا من الزنزانة».


ووسط هذه الأعراف يعتبر الولاء أولا للعائلة قبل الفرد بل قبل الدولة في بعض الأحيان، أيضًا الثأر هو عرف اجتماعي مستقر في معظم أرجاء الصعيد وهو الوجه الآخر لهيبة العائلة وكرامتها داخل مجتمعها، وأن العائلة بجميع أفرادها مسؤولة عن الأخذ بالثأر، وبالطبع يلزم هذا العرف القاسي وجود السلاح الذي يعتبر في منزلة الولد عند الصعيدي أو عند بعض العائلات والمجتمعات، وتعتبر هذه الظاهرة من العادات السيئة المتأصلة في الصعيد، والإقدام على الأخذ بالثأر يكادُ يكون بمثابة عقيدةٍ راسخة داخل وجدان كل فردٍ من أفراد الأسرة الصعيدية مهما بلغت درجته العلمية أو الثقافية، ثُلاثية العُرف والعادات والتقاليد هي الدافعة لاستمرار هذه الجريمة.


تاريخ عملية الثأر
اختلف المؤرخون حول موطن نشأة وانتشار ظاهرة الثأر التي تنتشر في بعض البلدان العربية، مثل مصر واليمن، فمنهم من أرجعها إلى العصر الفرعوني، ومنهم من أعادها إلى موسم الهجرة العربية إلى مصر والتي جرت في أعقاب الفتح الإسلامي، واعتمد المؤرخون الذين أرجعوا ظاهرة الثأر إلى عصور الفراعنة في تأكيد ذلك على أسطورة إيزيس وأوزوريس، وكيف دفعت إيزيس ابنها حورس للأخذ بثأر أبيه من عمه.


وأرجع البعض بداية الثأر في الصعيد، حينما توافدت القبائل العربية أثناء الفتح الإسلامي لمصر من شبه الجزيرة العربية وبلاد المغرب العربي، ومنها قبائل قنا من العرب والأشراف والهوارة، ونقلت معها هذا الموروث من أيام الجاهلية بجميع معتقداته، وتدين ثقافة الثأر بالكثير لهذه الحكايات المجهولة بالمعنى الواسع لمفهوم الحكاية، إلا أن ثقافة الثأر ترتكز أيضاً على تراث عام له بعده التاريخي الممتد في القدم، وله حياته الفعالة لا في مجتمع الصعيد المصري وحده، بل في الثقافة العربية بشكل عام، فلقد لعبت الموروثات الشعبية دوراً في ترسيخ عادة «أخذ الثأر»، خصوصًا في المناطق التي تعج بالصراعات والعصبيات القبلية.

 

من قتل يُقتل
في عادات هذه المجتمعات من قتل يُقتَل، والعائلة التي تُفرِّط في حق قتيلها عائلة ضعيفة يلحقها عار التخاذُل ما حيا أفرادها، والتسامُح ليس تصرُفًا محمودًا في هذا السياق، ويعتبر هذا مُجمل اعتقاد أهل الصعيد تحديدًا فيما يخُص الأخذ بالثأر، والذي يجعله إلزاميًا، ورغم ذلك فإن هناك مخرجًا وحيدًا هو ذاك الذي من شأنه أن يمنعهم عن الإصرار على الأخذ بالثأر، وهو قبول القاتل الخضوع لسلسلة طويلة من العناصر الطقسية التي تُعرف بطقس «القودة»، وهو طقس يهدُف إلى قتل القاتل قتلاً رمزيًا عبر إجراءات مُعيّنة، ليبعثه مرّة أخرى بعثًا رمزيًا.

 

القُودة والُجودة
«والقودة» بمعنى أخر تعني أن القاتل قد اقتيد لأهل القتيل ليفعلوا به ما يشائون وطقوس «القودة» في معظم قرى الصعيد متشابهة، وبرغم تشابه ظروف القودة في معظم قري الصعيد إلا أنها تختلف الآن عن فترة سابقة حيث ظهرت في مصر طريقة جديدة للقودة منذ الثمانينيات، «والقودة» تعني اقتياد الضحية إلى الموت أو الحياة وهى الحياة التي تأخذ شكل الأمل والاستمرار في الرضوخ لأحكام من يقبل الصلح وهى هيئة الموت المتعمد الواضح، وهناك أيضًا في نفس الموضوع «الجودة» التي تكون بتعطيش الجيم وهى طريقة الموت الخطأ حين لا يستدل على القاتل الحقيقى في مشاجرة لذلك على العائلة المعتدية أن تقدم شخصا يرتضى ان يحمل «الجودة» ويسمى الحامل للكفن «جودة» لأنه أجاد بنفسه لردم الدم بين العائلتين.


وتأخذ عملية العدول عن قرار الأخذ بالثأر وقتها والتدرُج في خطواتها بدايةً من تأجيل الثأر، والذي لا يعني بالضرورة قبول أهل القتيل لطقس القودة، فمدى التسويف والأخذ والرد فيها وإظهار الرفض دليل على تعنُت الأسرة في فكرة المُصالحة وعدم تفريطها في حق قتيلها، وصولاً لخطوة التفاوض المباشر على التصالُح والتي يتحدد فيها الشخص الذي سيُقدم «القودة»، والذي وإن لم يكُن القاتل سيكون الشخص صاحب المكانة الأعلى في عائلة القاتل إرضاءً لغرور عائلة القتيل، وبالأخص نساء العائلة الذين يُعد موافقتهم على التصالح على الدم شرطًا أساسيًا.


سر العدد الفردي
وتعتبر مسالة العدول عن نيّة القتل، عمليّة وساطة مُعقّدة يقوم عليها إما «قاضي الدم أو الأجاويد»، وقاضي الدم هو أحد الأشخاص الذي يتسم بالمكانة العالية في مجتمع الثأر، فضلاً عن تمتعه بمهارات وخبرة خاصة في فض الخصومات الثأرية، أما الأجاويد فهم كبار العائلات والعُمد الذين يكتسبون من صفاتهم الكريمة مكانة عُليا في مجتمع الثأر تسمح لهُم بالوساطة لدى أهل القتيل، وقبول هذا التوسُط وقبول الصُلح يكون لأجل مكانة المُتوسطين، وليس كرامةً للقاتل، وعادة تتكون المجالس العرفية من القضاة العرفيين للمجلس أو الكبار، وهم من يتسمون بالصدق والأمانة والمكانة الاجتماعية، وأيضا القدرة المادية، ولجنة للفصل في الواقعة والتي يجب أن تكون عددًا فرديًا لضمان وجود رأى مرجح إذا تساوت الآراء اللجنة، ويتم اختيارها من قبل طرفي النزاع، حيث يختار كل طرف عدد مساوي للطرف الآخر، كما يختارون مكانا محايدا ينعقد فيه مجلس الصلح العرفي، وعادة ما يكون صاحب مكان انعقاد المجلس هو العضو الفردي في لجنة الفصل والمكمل لها، بعد ذلك يتم اختيار رئيس للجنة لتنظيم الحوار، ويكون هذا الاختيار على أساس السن والمركز الاجتماعي، وتقوم لجنة المصالحة من قاضي الدم أو الأجاويد على كتابة محضر التصالُح، والذي يشتمل على كُل تفاصيل عملية التقريب بين العائلتين، وإجراءات التحقيق التي تقوم بها لجنة المصالحة تلك، والجلسات المنفردة مع القاتل، وأهل القتيل، والتعهدات التي تؤخذ على كُلٍ منهم، وموعِد احتفالية «القودة».

 

مذاهب الصلح الأربعة
تعاقب على تاريخ الصراعات القبلية في مصر 4 مدارس أو مذاهب رئيسية للصلح في قضايا الثأر.


1-المدرسة الأولى للصلح هي مدرسة «العبابدة» نسبة إلى قبائل العبابدة الذين قاموا بتأسيسها، وهى مدرسة تجبر القاتل على حمل «القودة» وهو عار وملفوف بالكفن وحافي القدمين وحليق شعر الرأس ومجرور من رقبته، وكان لهذه المدرسة شيوع في صعيد مصر من الأربعينيات حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي، وهى مدرسة قاسية لا تراعى الوضع الإنساني للقاتل بل تجبره على السير لمسافة 3 كيلو مترات مشيا على الأقدام، حتى يصل لديوان بيت القتيل، كما تجبر القاتل على التخلي عن قبيلته والانضمام لقبيلة القتيل، لتسببه فى إخلاء القبيلة من ولدها، لذلك عليه أن يملأ فراغ القتيل بل ويجبرونه على الزواج منهم ويعطونه ما يتعايش منه، ويصبح ملكهم، إذا مات يدفن في مقابرهم، ويقيمون له سرادق عزاء، بل إذا قٌتل يؤخذ بثأره.


2-أما المدرسة الثانية هي مدرسة «إقليم إدفو» بأسوان وبعض قرى قنا الجنوبية، وهى مدرسة تجبر القاتل على ارتداء الجلباب الأسود القصير «فوق الركبة»، ويكون حافي القدمين، وحليق الرأس، ومجرور من الرقبة، وهذه المدرسة لا يوجد فيها زواج للقاتل من أهل القتيل، نظرًا لأنها مدرسة طبقت في أماكن لقبائل لا تسمح لبناتها بالزواج من غريب، ولكن توجد فيها إقامة للقاتل عند أهل القتيل، ولكن دون اختلاط بهم.


3-أما المدرسة الثالثة، وهي مدرسة «الأسرة الدندراوية» وهى التي أرساها الأمير العباس الدندراوى في قرية دندرة بقنا، وهى تجبر القاتل على تقديم «القودة» وهو مرتدي الجلباب الأسود المقلوب، ومجرور من رقبته، وحافي القدمين، وهذه المدرسة تقوم باستعدال الجلباب الأسود للقاتل حين يقف أمام أهل القتيل، وفلسفة هذه المدرسة تقوم على أساس أن استعدال الجلباب للقاتل نوع من استعدال هيئته وحاله من الممات الذي كان ينتظره إلى الحياة والبقاء في الدنيا.


4-أما المدرسة الرابعة، والتي تلقى تأييد من الأمن، فهي تعتمد على شقين، الشق الأول هو الأخذ بأسلوب البساطة الذي يؤدى لاحترام أدمية الإنسان، بمعنى أن يؤخذ القاتل بجلبابه العادي وإلغاء لف الكفن وتبديله بكتابة اسم القاتل وتاريخ الصلح وإعطائه لأهل القتيل ليكون ذكرى وتخفيفا عن تجرع الحزن على قتيلهم، مع إلغاء جر الرقبة لأنه يجعل الإنسان قريبًا من الحيوان.


وتغير الأمر طبقا للمدرسة الرابعة من جر الرقبة إلى أن يقوم اثنان من هيئة الصلح بإمساكه من ذراعيه وتسليمه إلى أهالي القتيل، وهذا يعتبر رضوخا للمعنى اللغوي للقودة الذي أتى من معنى «قاد إليك القاتل فهب له الحياة أو هب له الموت»، وغالبا تسليم القاتل يكون على أيدي الشرطة مع إلغاء أن يكون القاتل حليق الرأس، وإنما يكفى القاتل أن يكون بلا "عمة" أو غطاء للرأس، لأن الحكمة الحقيقية للقودة أن يكون القاتل شبيها بإنسان ميت يريد أن يقبر في قبر، وأن يلبس القاتل حذاء خفيفا مع تبديل مسافة الثلاثة كيلو مترات التي كان يُجبر القاتل على السير بها إلى مسافة أمتار قليلة مع جعل هيئة القودة التي كانت صامتة إلى قودة تكون مقبولة ومسموعة وترضى ولى الدم.


ويردد القاتل هذه الكلمات لولى الدم، وهى «أنا جئت إليك وأطلب منك الصفح والعفو عما بدر منى»، ثم يرد عليه ولى الدم، «من أجل الله ورسوله والمؤمنين والحضور الطيب عفوت عنك».
 

 

 

 

 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي