حكايات| قرية الجثث «المخلة بالآداب» .. انطلق منها فن الخلاعة

أحد نقوش بومبي التي تظهر بها الخلاعة
أحد نقوش بومبي التي تظهر بها الخلاعة

انسحبت الشمس من مكانها، تاركة السماء تكسوها سحب العدل، إيذانا بانطلاق بركان يضيء ليل القرية الإيطالية التي اتخذت من المجون أسلوب حياة قبل عشرات القرون.

 

وما أن أذن للبركان الخامد في تلك البقعة أن يثور، حتى انفجر في وجوههم صابغا الهواء بريشة من الاحمرار الذي لا تفرق فيه بين حمرة الحمم والدماء، لتبدأ قصة بلد عاشت في الفحشاء على كل لون، تاركة خلفها أثرا من العدل، تجسد في تماثيل ونقوش «مخلة بالآداب».

 

يد الله تحكم

 

هذا المشهد، الّذي أسدل الستار عليه، يُعيده اكتشاف أثري يلمسه البشر ويعيشونه مجددا على الأرض، لعلهم يتخذون العظة والعبرة، في زمن ضُرب بهما عرض الحائط.

 

حاد أهل القرية الإيطالية وهي تدعى «بومبي» عن الفطرة فأمهلهم الله حتى نفذ وعده، بعد أن جهروا بالزنا والفحشاء والشذوذ – بمختلف أشكاله.
 


عاش أهل بومبي في زمن الامبراطورية الرومانية، وتقع على البحر المتوسط بالقرب من مدينة «نيبلس»، وبلغ عدد سكانها في ذلك الوقت 200 ألف نسمة، وكانت عامرة أيام حكم الإمبراطور «نيرون» والتي مازالت تخضع لعمليات ترميم لتكشف عن الكثير من الأسرار الإنسانية والمعمارية.

 

 
جثث في أوضاع جنسية

 

«بومبي»، ظلت طي النسيان حتى القرن الـ 18 ولكنها أصبحت الآن أحد المزارات السياحية، بعد أن تم اكتشافها خلال عملية حفر قناة مائية في المنطقة، حيث فوجئ العلماء بآلاف الجثث المتحجرة والمدفونة تحت الرماد البركاني في أوضاع جنسية مختلفة، ليتبين لاحقا أنهم ضحايا كارثة طبيعية ضربت المدينة بشكل مفاجئ عبر ثوران بركان جبل فيزوف، وعثر فيها على مناطق بها جثث متحجرة، واشتهرت هذه المدينة بالزنا وحب قاطنيها للشهوات، وكان يوجد بها بيوت للدعارة في كل أرجائها، وانتشرت بها غرف صغيرة لممارسة الرذيلة لا يوجد بها سوى فراش واحد.

 

كان لدى تلك القرية حضارة مزدهرة وقطع نقدية، تطل على جبل بركاني خامد، ومعظم السكان من الأثرياء، وظهر ذلك على معالم المدينة، فكانت شوارعها ممهدة بالحجارة وبها حمامات عامة وشبكات للمياه تصل إلى البيوت، وبها ميناء بحري متطور ومسارح وأسواق، وآثارهم أظهرت تطور بالفنون من خلال النقوش ورسومات الجدران.

 

الزنا والشذوذ

 

كل هذا التقدم والثراء والتطور، لم يمنع قاطنوها من ممارسة «الزنا والشذوذ» حتى مع الحيوانات، وكان يتم ذلك جهرا وعلانية حتى أمام الأطفال، بل وكانوا يستنكرون أن يتم الأمر في الخفاء، ويرسمون الصور الإباحية على جدران منازلهم أمام الأطفال والنساء والكبار، حتى إن الباحثين اليوم يعتبرون أن فن الخلاعة قد بدأ في هذه المدينة، كما أنهم كانوا يتمتعون بمشاهدة المصارعة بين البشر والحيوانات المفترسة التي تنتهي بموت أحدهما، وقتلوا بهذه الطريقة الكثير من الموحدين المسيحيين قبل قرابة 2000 سنة، ولكن لأن يد الله لا تترك فسادا وظلما يتفشى دون تحقيق العدالة، فجأة انفجر عليهم البركان فأباد القرية بكاملها، وعندما انفجر البركان ارتفع الرماد إلى 9 أميال في السماء وخرج منه كمية كبيرة من الحميم.

 

بركان.. كالقنبلة النووية

 

«كمية الطاقة الناجمة عن انفجار البركان يفوق أكبر قنبلة نووية.. والرماد تساقط على سكانها كالمطر ودفنهم تحت 75 قدما.. وأحيطوا بموجة حارة من الرماد الملتهب تصل درجة حرارتها إلى 500 سيليزية، بصورة سريعة جدا حيث غطت 7 أميال إلى الشاطئ» وذلك وفق خبراء الآثار الذين عاينوا القرية وأبرزهم «باولوا بيثرون»، وعالم البراكين «جو سيفي».

 

ووفق العلماء: «تظهر الجثث على هيئاتها وقد تحجرت الأجساد كما هي، فظهر بعضها نائم وآخر جالس وآخرون يجلسون على شاطئ البحر وبكل الأوضاع بشحمهم ولحمهم».  

 

وبعد إجراء العديد من الأبحاث والدراسات على 80 جثة لأهل القرية، وجد العلماء أنه لا توجد جثة واحدة يظهر عليها أي علامة للتأهب لحماية نفسها أو حتى الفرار، ولم يبد أحدهم أي ردة فعل ولو بسيطة، والأرجح أنهم ماتوا بسرعة شديدة دون أي فرصة للتصرف، وكل هذا حدث في أقل من جزء من الثانية.

 

آية الله في الأرض

 

الأمر الغريب في المدينة والذي يدعو للتوقف ولو لبرهة، ليس فقط اندثارها لمدة تصل ألف و 700 عام، بل الشكل الذي ظهر به أهل المدينة نفسها بعد تلك المدة، حيث حافظوا على نفس هيئاتهم وأشكالهم التي كانوا عليها قبل انفجار البركان،  ويفسر خبراء الآثار الظاهرة، بأن أهل القرية أحيطوا بموجة حارة من الرماد الملتهب تصل درجة حرارته إلى 500 سيليزيوس، بصورة سريعة، لدرجة أن الغبار البركاني حل مكان الخلايا الحية الرطبة لسكان المدينة، ما يفسر بقاء الجثث على هيئاتها وقد تحجرت كما هي، فظهر بعضها نائما وآخر جالسا وآخرون على شاطئ البحر.

 

آلاف الاكتشافات والأبحاث السابقة في المدينة، كانت تهتدي إلى أن الفحشاء الوحيدة التي كانت تمارس في تلك القرية هي الزنا، ولكن في أخر اكتشاف ثبت أن هناك حالات من الشذوذ والمثلية الجنسية كانت تمارس أيضا، حيث اكتشف باحثون في علم الآثار أثناء عمليات التنقيب في «مومبي» جثتين متحجرتين لشابين مثليين في وضع حميمي.

 

المثلية.. اكتشاف جديد

 

 

وبعد إجراء تحليل الحمض النووي والتصوير الضوئي والفحوص فائقة الدقة والتطور على هذين التمثالين، تبين أن شابا في الـ 18 من عمره كان في أحضان شاب آخر في الـ 20 من عمره حين دفنهم رماد بركان جبل فيزوف خلال الكارثة الطبيعية التي حلت بمدينة بومبي قبل 2000 سنة، وكان الاعتقاد السائد بين الباحثين في بداية هذا الاكتشاف أن وضع التمثالين بين شاب وفتاة، ولكن بعد التدقيق والفحص، تبين أنهما ذكرين، وهو ما شكل منعطفا في إعادة توجيه البحث وتصحيح الفكرة السائدة من أن بومبي كانت مجرد مدينة للدعارة والزنا فقط، ليؤكدوا إلى أنها أيضا احتوت على أشكال أخرى من الرذيلة لم تكن مألوفة قبل 20 قرنا.

 

العديد من الشخصيات على مدار التاريخ وخاصة محبي الفنون، لفتت نظرهم قرية «بومبي»، فزارها على سبيل المثال الملك فرانسيس الأول من نابولي لحضور معرض القرية في المتحف الوطني مع زوجته وابنته عام 1819، ولكنه صدم بما رآه من رسومات واعتبرها فنون جريئة ومخالفة لاحترام الآداب العامة.

 

ولا يزال  بالإمكان – خلال الوقت الحالي - رؤية الجثث المتحجرة لسكان تلك المدينة والتي حفظت الحمم البركانية والغبار البركاني أشكال جثثهم بالوضعية التي ماتوا عليها حتى يومنا هذا، بل وأصبحت مدينة بومبي مزارا سياحيا، ولكن بعض المناطق فيها يحظر على الأطفال والأقل من 18 عاما دخولها بسبب الرسومات الإباحية، وخاصة على بعض المباني والحمامات التي كانت تعرض المتعة لزبائنها.