حكايات|  «البغاء» برخصة.. أسرار «العايقة والمقطورة» من سجلات البلدية

البغاء كان برخصة في مصر
البغاء كان برخصة في مصر

«تقف على ناصية شارع محمد علي؛ ذلك الشارع الذي تمتد خيوطه بين ميدان العتبة وحتى شارع عبد العزيز في وسط مدينة القاهرة، ترتدي تلك التنورة الحمراء الصغيرة، يتراقص شعرها خلف ظهرها، مُغرقة شفتاها في أحمر الشفاه، تمسك بسيجارة فتشعلها وتأخذ منها نفسا فتنفثه في الهواء، يحمل معه كل العوز والمشكلات التي دفعتها للوقوف في تلك البقعة تستجدي الرجال مقابل «ليلة حمراء»، فهي لن تكف عن حرق السجائر حتى تحرق روحها العطشى لـ«المال». 

 

بيع الهوى

 

في مثل تلك الأيام – عصر محمد علي باشا - كان ذلك المشهد دائم التكرار في مناطق بعينها في مصر، اشتهرت بالبغاء والدعارة، وربما كان أشهر تلك الشوارع: «محمد علي، وكلوت بك، وعماد الدين، ووش البركة، ودرب طياب، وعطفة الجينينة، والحوض المرصود».

البداية جاءت مع دخول الفرنسيين إلى مصر، حيث حملوا معهم الكثير من السلبيات، وكان أبرزها ممارسة الدعارة، حيث قاموا بتطويرها وجعلوها مكان للسهر وشرب الخمر والرقص وبيع الهوى، وانقسمت العاهرات – آنذاك - إلى قسمين «عايقة» و«مقطورة» والأولى هي القوادة والثانية هي التي تمارس النشاط.

 

ربما قوَة الإنسان ليست في النسيان بل بما يتذكره، ونحن هنا نتذكر تاريخ البغاء في مصر، لأخذ العبرة وإرجاع الفضل للرجل الذي خلص مصر من تلك الخطيئة وقضى على تلك المهنة التي كانت تصدر لها رخصة ممارسة في وقت من الأوقات، ففي يوم 20 فبراير عام 1949 أصدر الحاكم العسكري العام في مصر أمرا بإغلاق جميع بيوت الدعارة في مصر، بالأمر العسكري رقم 76، بعد أن استطاع جلال فهيم وزير الشئون الاجتماعية – آنذاك - إلغاء البغاء بقرار رسمي، ونص القرار على المعاقبة بالحبس 6 أشهر كل من عاون أنثى على ممارسة البغاء.

 

الجيلاني.. صاحب الفضل
 

والذي يدعو للتوقف قليلا، أن هذا القرار جاء بعد أن نجح الراحل سيد جلال الجيلاني - والذي ظل نائبًا عن منطقة باب الشعرية لنصف قرن - القضاء على أكبر ظاهرة عانى منها المجتمع المصري لسنوات طويلة وهي البغاء، حيث كان على صداقة بالشيخ محمد متولي الشعراوي، وكشف الأخير في حوار مع الكاتب سعيد أبوالعينين - حسب المذكور بأرشيف مصر - أن نائب باب الشعرية يرجع إليه الفضل في إلغاء البغاء في مصر، حيث قام بتدبير حيلة حسب رواية الشيخ الشعراوي، والذي قال: «انتهى بسيد جلال التفكير إلى تدبير مقلب لوزير الشؤون الاجتماعية، لإحراجه ودفعه إلى العمل لإلغاء هذه الوصمة، باعتباره الوزير المسؤول الذي باستطاعته أن يصدر قرارًا بذلك».

 

مقلب الجيلاني

 

«جلال» أعد خطته للإيقاع بوزير الشؤون الاجتماعية جلال باشا فهيم، وأخبره بأنه يعتزم إقامة مشروع خيري كبير يضم مدرسة سيبنيها على الفور، معربًا عن سعادته في حال حضور الآخر لرؤية الموقع، وهو ما يثير فرح أهالي الدائرة، وبالفعل قبل الوزير الدعوة  وارتاد حنطورًا للتوجه إلى المقر.

 

في تلك الأثناء كان «سيد جلال» اتفق مع السائق أن يمر بـ«فهيم باشا» من شارع كلوت بك، وبمرور الوزير داخل الشارع التفت حوله العاهرات ظنًا منهم أنه زبون جديد، وانتهى ذلك التجمع بسرقة محفظته وتمزيق ملابسه، حتى خرج وهو يسب سيد جلال، لإدراكه أنه خلف ما حدث له، وبعدها مباشرةً وبسبب ذلك الموقف تم إصدار القرار بإلغاء البغاء في مصر.

 

وفوجئ وزير الشؤون الاجتماعية – بعد أن أصدر القرار - بسيد جلال يدخل عليه وهو يضحك ويشكره على شجاعته بإصدار القرار الذي مسح عار البغاء العلني والرسمي عن مصر، وقال له: «لقد فعلت شيئا عظيما، وسوف يذكره الناس لك»، وهو ما دفع الوزير لأن يهدأ، وقال لسيد جلال: «سيقول الناس أيضا: إنك أنت الذي دبرت المقلب الذي جعل الوزير يصدر هذا القرار».

 

تبرع بنسائك للبغاء

 

الشيخ الشعراوي يروي عن سيد جلال، وكيف تصدى لمحاولة أحد النواب لإعادة البغاء مرة ثانية، في جلسة عاصفة بالبرلمان، ووقف سيد جلال وقال: «إن الذين يعتقدون أن إلغاء البغاء يؤدي إلى انتشار الأمراض السرية أكثر، هم على خطأ، وعندي الإحصائيات التي أعلنتها المؤتمرات الطبية العالمية والتي تثبت أن الأمراض السرية تنتشر أكثر في الدول التي تعرف نظام البغاء، وتقل في التي حرمته». 

 

واستطرد سيد جلال: «إن مصر نسيت مسألة البغاء، ولم تعد هذه المسألة في أفكار أحد، وإذا كان النائب صاحب الاقتراح بإعادة البغاء مصرا علي اقتراحه، فعليه أن يتبرع لنا بخمس سيدات من أسرته ليكن نواة لإحياء المشروع من جديد»، وضجت القاعة، ولم يرد صاحب الاقتراح، وخرج من المجلس، ولم يعد إليه.

 

تاريخ البغاء.. والعصر الفرعوني

 

مؤخرا تم العثور في دار المحفوظات على وثائق عمرها 120 عاما تتحدث عن تسجيل العاهرات في مصر، وكان من بينها إحدى الطالبات الرسمية التي تقدمت بها إحدى العاهرات لفتح بيت دعارة بمحافظة قنا عام 1922، والبعض يرجع تاريخ البغاء في مصر إلى الفراعنة، حيث أن العصر الفرعوني كان يهتم بفحولة الرجل وقدرته الجنسية، حتى أن فخرهم بالنزعة الجنسية يظهر جليا في الرسوم والنقوش التي تركوها على الجدران، بخلاف أنه تم العثور في منطقة سقارة على غرفة داخل المعبد كانت مخصصة لممارسة الجنس مقابل أجر مادي، وكان اسمها غرفة «الإله بس»، وهو إله الخصوبة عند القدماء المصريين.

 

«كراخانة» العصر العثماني

 

«البغاء» ظهر أيضا في العصر العثماني، وكانت بيوت الدعارة في هذا الوقت تسمى الكراخانة، وهي كلمة تركية مكونة من مقطعين «كرى» وتعني نوم و«خانة» وتعني نزل، وكان يتم حمايتها من الشرطة – آنذاك – بل وتم تسجيل أول حالات للبغاء بشكل قانوني، حيث أنه في القرن السابع الميلادي جرى التسجيل في مقر «الصوباشي» أو رئيس الشرطة، وكان تحت إمرته 40 شرطيًا يطلق عليهم «جاويشية باب اللوق» ووظيفتهم حصر ومراقبة البغايا.

 

رخصة محمد علي للعاهرات

 

بعد تنصيب محمد على باشا واليا على مصر ازدهرت الدعارة مع توافد الأجانب إلى مصر، حيث أبقى على ضريبة البغاء بعض الوقت، ثم ألغاها عام 1837، ثم بدأ البغاء في الخضوع للتسجيل والتنظيم منذ تطبيق اللائحة التي سميت بتعليمات بيوت الدعارة، والتي استمر العمل بها حتى ألغيت عام 1949.

 

لائحة التفتيش على العاهرات صدرت عام 1885 والتزمت البغايا بمقتضاها بالتسجيل وإلا عوقبن، وتم العثور مؤخرا في دار الوثائق والمحفوظات على وثائق عمرها زاد على 120 عامًا تتحدث عن تسجيل البغاء في مصر، وبمراجعة أسماء العاهرات المسجلة في الدفتر لوحظ أن معظمها تحتوي على لقب مميز، مثل: «حسنة الطرابية، وبهية الزايطة، وفطومة الإسكندرانية، وبمبة العربجية»، وكان هناك بعض الأسماء التي توحي بجنسيات غير مصرية مثل: «شاهور شان، وأنجلكة خريستو، وفريدة يني».

 

لائحة التفتيش كانت أيضا تحتوي على محل السكن وتاريخ الكشف الطبي ورقم الرخصة ومكان العمل، كما وجدت بعض الملاحظات الطريفة مدونة قبالة الأسماء مثل: «مسافرة إسكندرية، تابت وسلمت الرخصة».

 

قانون مكافحة الدعارة

 

د. عبد الوهاب بكر في بحث علمي رائع صدر في كتاب حمل عنوان «مجتمع القاهرة السري 1900 ـ 1951»، الذي يعد واحدا من أهم الأبحاث الاجتماعية لقدرته على رصد وتحليل كل خبايا وأسرار تاريخ البغاء في مصر، مشيرا في بحثه إلى أن البغاء العلني قد صدر من أجل تنظيمه قرارات ولوائح منظمة له فإن أولى لوائحه أصدرها مصطفى فهمي رئيس مجلس النظار وناظر الداخلية عام 1905، تحت عنوان: «لائحة بشأن بيوت العاهرات»، ومنذ ذلك الوقت وتوالت من بعدها التنظيمات حيث أصدر خديوي مصر عباس حلمي «لائحة البيوت العمومية» ثم لائحة «التياترات» التي وقعها عام 1916محمد سعيد ناظر الداخلية، لكن عام 1949 شهد قرارا جريئا بإغلاق بيوت العاهرات، وبعدها بعامين فقط صدر القانون 68 لسنة 1951 الخاص بمكافحة الدعارة والمعمول به حتى الآن.

 

 

الأدب والعاهرات


بخلاف بحث «عبد الوهاب»، فإن قصص العاهرات، لم يغفلها الكاتب والأديب الكبير نجيب محفوظ، الذي لم يترك ظاهرة عايشها المجتمع المصري إلا وتطرق إليها في رواياته، ولأن الدعارة كانت منتشرة أيام «محفوظ» احتلت حكايات العاهرات مساحات كبيرة من رواياته لتظل شخصية «حميدة» في رواية «زقاق المدق» شاهدة على توغل العاهرات في حياة المصريين، كما أن «نور» في «اللص والكلاب» المرأة التي احترفت مهنة البغاء، لينقلنا في رائعة أخرى تعرف باسم «بداية ونهاية»، حيث دفعت نفيسة حياتها ثمنا لامتهانها هذه المهنة لتلقى بنفسها في بيوت البغاء بحثا عن المتعة الحرام، وتتوالى الأحداث في الرواية لتجد نفسها أمام خيار واحد هو الانتحار، وفي رواية «القاهرة 30» نجد «إحسان شحاتة» وخطيبها الاشتراكي «علي طه» التي تدفعها أمها للبغاء وترتمي في أحضان الباشا لينتشلها «محجوب عبد الدايم» رجل كل الأزمنة.

 

 

لم يكن نجيب محفوظ وحيدا بل سطر إحسان عبد القدوس في العديد من كتاباته الروائية جانبًا كبيرًا عن الجنس والعاهرات ففي «أنف وثلاث عيون» نجد «أمينة» التي تقع في حب «هاشم» وبعد أن تنجح في إقامة علاقة معه يتركها بدعوى أنه لا يفكر في الزواج، وتتزوج أمينة من آخر ولكن تمل الحياة مع زوجها وتطلب الطلاق وتعود للدكتور هاشم الذي اعتاد أن يتهرب منها رغم حبها له، وفى النهاية ترمى أمينة نفسها في أحضان من يطلب المتعة، كما أن رواية «قاع المدينة» لـ«يوسف إدريس» و«بيت من لحم» تدور القصة فيهما داخل حجرة صغيرة لأرملة وبناتها الثلاث، وتقرر الأرملة الزواج من المقرئ الكفيف بعدما رفضته بناتها ليعيشوا سويا داخل الحجرة الضيقة.

 

زعيم وملك العاهرات

 

قصص وروايات جسدت على مدار سنوات ظاهرة «البغاء» في مصر، ولكن يبقى الواقع أصدق وأبشع من أي صورة جمالية قد تطبع على الورق، ففي 15 أكتوبر سنة 1926 كان عالم العاهرات والقوادين في القاهرة على موعد من الحزن بسبب وفاة زعيمهم إبراهيم الغربي، وذلك أثناء تنفيذه عقوبة بالحبس 5 سنوات بدأت في منتصف عام 1924، وبلغ الأمر بـ«رسل باشا» قائد البوليس في القاهرة على القول تعليقاً على موته: «كان على المومسات وقد حُرمن من الملك، أن يبحثن عن حُماة آخرين الذين بدونهم رغم وحشيتهم، تكون المومس في كل مكان في العالم ضائعة وعاجزة».

 

 

كتاب «ذات يوم.. حكايات ألف عام.. وأكثر»، يحكي قصة إبراهيم الغربي، ذلك الرجل الذي توج ملكا في عالم الدعارة والبغاء، حيث يصفه «رسل باشا» في الكتاب، بقول: «إن لهذا الرجل سلطة مذهلة، امتد نفوذه في محيط السياسة والمجتمع الراقي.. كان شراء وبيع النساء للمهنة في كل من القاهرة والأقاليم في يده كلية.. ولم يكن قراره بالنسبة إلى السعر يقبل المناقشة»

 

ويضيف الكتاب: «في عام 1896 استأجر «الغربي» منزلاً كبيراً في «الوسعة» لتشغيل البغايا، ثم اقتنى مقهى بلديا تعرض فيه الراقصات رقصات خليعة تستفز الغرائز، وفي 1912 امتلك 15 بيتا للبغاء في الأزبكية، وكانت تعمل فيها 150 امرأة، وأصبح اسمه يقترن بمملكة البغاء في القاهرة مع بداية الحرب العالمية الأولى».

وفي كتاب «البغايا في مصر – دراسة تاريخية اجتماعية من 1834 – 1949»، يقول الباحث عماد هلال عن «المغربي»: «إن القوادين والبغايا نصبوه سلطانا على عالمهم بعد الإفراج عنه عام 1918، حين تعرض للاعتقال مع عدد من المخنثين المنتشرين بحي الأزبكية عام 1916، وألبسوه تاجا ذهبيا مرصعا بالألماس والزمرد والياقوت، وتربع على عرش تجارة الدعارة والفسق، وحكم مملكته بديكتاتورية صارمة، وكان يسن قوانينه الخاصة، ويشرف على تنفيذها، ويعاقب من يخالفها».

 

«جعل الغربي من أحد بيوته سجنا وحول غرفه إلى زنزانات حقيقية، وكان يحكم في بعض الحالات بإعدام ضحيته، فيتم رميها في غرفة تحت الأرض حتى تموت جوعاً، واستفحل أمره بعد الحرب العالمية الأولى، وأصبح له وكلاء في عواصم أوروبا يستورد عن طريقهم البغايا من كل الأجناس، وكان يدعو الأجانب للتسلية، ويقيم لهم معرضا للفجور والفحش، ويحشر إليه طائفة من الجنسين، يفعلون الفاحشة على طرق متنوعة كأقصى ما وصلت إليه الرذائل، وامتد سلطانه فشمل بغايا مصر كلها»، بحسب «هلال».

 

حكم على «الغربي» بالسجن في منتصف عام 1924 لمدة 5 سنوات مع الأشغال الشاقة، ومات في السجن بعد نحو عام، وحين مات كانت ممتلكاته «54 بيتا في حي باب الشعرية قيمتها وما تحويه 50 ألف جنيه، و156 سوار ذهب خالص وزمرد وماس، عدا تاج كان يلبسه فوق رأسه قيمته 3 آلاف جنيه بأسعار وقتئذ وكسوة للتشريفة كان يرتديها في الحفلات الرسمية قيمتها 500 جنيه، إلى جانب 10 آلاف جنيه»، وذلك حسب د. عبدالوهاب بكر.

 

الشباب يعاني من الفراغ

 

ربما خير ما يوضع خاتمة لهذا السرد حول تاريخ البغاء في مصر، هو ما قاله سيد جلال الجيلاني نائب باب الشعرية الذي يعود له الفضل في تخليص مصر من تلك الوصمة، وذلك حينما قال تحت قبة البرلمان: «الذين يقولون إن الشباب بكل غرائزه الجنسية لا يعرف أين يذهب وماذا يفعل؟ هؤلاء يتصورون أن الشباب عجل يجري تسمينه وتكبيره من أجل الدعارة، وأن علينا أن نهيئ له بيتا للدعارة، ونساعده على الفساد، وينسي هؤلاء أن مشكلة الشباب أكبر وأعمق، الشباب يعاني من الفراغ ومهمتنا أن نهيئ له مجالات العمل، ليعمل ويتزوج ويقيم أسرة، فالعمل سيعود عليه بالنفع، وعلى الدولة بالفائدة».