أنظر إلى الساعة، تخطت الثانية والنصف من بعد الظهر، الزحام شديد، على طول الطريق إلى مسجد السيدة نفيسة. بدأت أشعر بالقلق.. أريد أن ألحق بموعدى فى لقائى الأخير مع جمال الغيطانى الأستاذ والروائى وابن أخبار اليوم الأبرز.

أتحسس ساعتى، أستحث عقاربها على التوقف، لأصل قبل آذان العصر، موعد الوداع.
أتذكر لقاءنا الأول، كانت سببه «ساعة يد»!
كنا معا نستقل سيارة واحدة، فى رحلة من الاسماعيلية إلى بورسعيد، والدى، والغيطانى، والصحفى الشاب - يومئذـ محمد بركات، كانوا فى طريقهم لمتابعة الاستعدادات للاحتفال بالذكرى الثانية لحرب أكتوبر وتغطيتها لجريدة «الأخبار» وكنت معهم ليشترى لى أبى من المدينة الحرة «ساعة يد» هدية نجاح تأخرت بسبب ظروف العمل شهرين!
***
40 عاما بالضبط تفصل بين اللقاءين!
فى أول لقاء، شدتنى حوارات الصحفيين الثلاثة، عن التمعن فى معالم الطريق المحازى للشاطئ الغربى لقناة السويس، ومتابعة حركة السفن التى عادت للعبور من جديد قبلها بأربعة أشهر، ومصافحة بورسعيد لأول مرة، وهى تطل على القادمين عند مدخلها بابتسامة ومرح ودلال، ووجه لم تفلح الحروب فى إخفاء ملامحه الجميلة.
سمعت الثلاثة يتحدثون عن أيام أكتوبر، عن النار والبارود والدماء، عن الأبطال الرفاعى وعبدالتواب وزرد، وعن الرجال مأمون وخليل وبدوى وأبو سعدة وغالى ومحمد المصرى وعبدالعاطى..
أسطورة إبراهيم الرفاعى لم يكن ليعرفها جموع الناس، لولا كتابات جمال الغيطانى، كذلك بطولة عبدالعاطى الذى أسماه الغيطانى «صائد الدبابات».
***
مضت السنون، وتوثقت علاقتى بالأستاذ جمال الغيطانى، أقرأه محققا لامعاً، وكاتب مقال رصينا، وروائيا مبهرا، تصدر جيل الستينيات، وذاع صيته خارج مصر والعالم العربى، ليصبح واحداً من أهم روائيى هذا العصر.
وعندما التحقت بجريدة «الأخبار» اقتربت منه أكثر، وكنت ضيفا دائماً على مكتبه، أحب أن أرى نظرته الذكية الحانية، وأسمع ضحكته المحببة وهو يسخر من أوضاع، كان غيره يخشى أن يهمس بها، وأستمع منه إلى حكاياته النابعة من عمق تاريخ مصر، ولعل منه أدركت تفرد العلاقة بين الشعب المصرى وجيشه.
حين أصبحت رئيسا لتحرير «الأخبار»، وجدت أستاذى الغيطانى أول من يزورنى مهنئا، ويقدم نفسه - وهو من هو - جنديا فى كتيبة «الأخبار» - بحسب تعبيره - فى بواكير أيام ثورة 25 يناير. كان الغيطانى بالرأى والنصيحة والخبرة الهائلة بالفن الصحفى، خير مرشد لى ولزملائى فى أسرة التحرير، وكان عموده اليومى «عبور» خلاصة حكمة شاب عاش ألف عام.
وعندما أخرجت من دار «أخبار اليوم» فى مطلع الاحتلال الإخوانى للبلاد، تعرض الغيطانى لكل أشكال التضييق من نظام الإخوان، وحينما عرضت عليه أن ينتقل بقلمه إلى «المصرى اليوم»، اعتذر بوضوح ليبقى عموده «عبور» فى «الأخبار» هو «رأس عش» للجيش المصرى فى سيناء، حتى تتحرر الجريدة، مثلما تحررت الارض.
قاوم الغيطانى نظام حكم المرشد، فى عموده اليومى، وفى مقالاته، وعلى شاشات التليفزيون، وفى المنتديات السياسية، ورأيته كثيرا فى صالون د. أحمد العزبى وصالون اللواء محمد يوسف، أشد المؤمنين بزوال هذا النظام البغيض قبل انتهاء عامه الأول، وأذكر أنه أول من هنأنى على وصفى لهذا النظام فى ظل عنفوانه على صفحات «الأخبار» بأنه «جملة اعتراضية فى تاريخ الوطن».
***
كان الغيطانى أول من نبه وحذر من اقتياد الإخوان لبعض الشباب الثورى إلى هاوية الوقيعة مع الجيش والإساءة له، وأذكر له كتاباته وحواراته مع الشباب فى المنتديات السياسية، وهو يفند لهم ادعاءات الإخوان وأذنابهم، ويروى وقائع من التاريخ ومن الماضى القريب والحاضر عن تضحيات جيش مصر العظيم من أجل الوطن والشعب.
منذ شهور.. احتفلنا بسبعينية الغيطانى فى أمسية رائعة، تألق فيها كعادته وهو يتكلم ويحكى، لكنى لاحظت شحوبا على وجهه، وكان سببها متاعب قلب تألم أكثر مما فرح. وعانى أكثر مما سعد!
بعدها.. فاز الغيطانى بجائزة النيل، أرفع جوائز الدولة شأناً، وقابلته فى اليوم التالى مهنئاً، وبدا هو ممتنا لاحتفاء «الأخبار» به فى مانشيتاتها فـ «الأخبار» تظل فى وجدانه هى بيته الأول. وأقلقنى فى اللقاء أن الغيطانى كان يتحدث بلسان محارب قديم يريد أن يترجل من صهوة جواده!
مضت أسابيع.. وهاتفنى الغيطانى بصوت واهن، وعرفت أنه أصيب بوعكة صحية إثر تناول عبوة من منتجات الألبان منتهية الصلاحية.
ثم مرت أيام.. وأبلغنى زميلى أسامة شلش مدير التحرير أن الغيطانى نقل إلى مستشفى الجلاء العسكرى، وظننت ان السبب مضاعفات الوعكة، ثم عرفت أنه ذهب فى غيبوبة عميقة.
لقائى الأخير مع الغيطانى، كان فى غرفة العناية المركزة، وكان معى الكاتب الكبير جلال عارف رفيق مشواره الصحفى ورئيس المجلس الأعلى للصحافة.
كان الغيطانى محاطا بالأسلاك والشاشات تشير إلى أن كل أجهزة جسده تعمل بكفاءة، عدا المخ الذى راح فى غيبوبة عميقة، بعد أن توقف القلب أكثر من 20 دقيقة.
إنها معجزة أن ينبض القلب من جديد بعد أن توقف خفقانه كل هذا الوقت، كما قال لنا اللواء طبيب بهاء الدين زيدان مدير مجمع الجلاء الطبى.
ظل الغيطانى كما عاش، يقاتل الموت من أجل الحياة طيلة شهرين، حتى حل أوان الرحيل.
***
استيقظت صباح الأمس، على النبأ الحزين، وشعرت بغصة خسران هائل على المستوى الشخصى، وفادح على مستوى دار «أخبار اليوم» التى شاء المولى أن يختبرها ببلاء رحيل كبار أربعة فى غضون عام، مصطفى حسين وأحمد رجب، ثم وجدى قنديل، وأخيراً جمال الغيطانى.
عند الظهر.. ذهبت إلى مكتب عميد الصحافة والفكر الأستاذ محمد حسنين هيكل، للقائه فى موعد كان محدداً قبل رحيل الغيطانى، وقبل أن أدخل إليه، همست مديرة مكتبه فى أذنى تقول إن الأستاذ فى حالة حزن شديد على رحيل الغيطانى. أعرف قطعاً عمق العلاقة التى تربط الأستاذ هيكل بجمال الغيطانى، وبادرنى الأستاذ مستفسراً عن السيدة ماجدة الجندى حرم الغيطانى، ثم قال: إنها خسارة فادحة، فقد رحل الغيطانى وهو فى ذروة عطائه وأوج تألقه.
***
أقف مع الدبلوماسى النابه محمد جمال الغيطانى وزملائى فى «أخبار اليوم» نحمل نعش الفقيد ملفوفا بعلم مصر إلى السيارة، ألمس النعش، وأهمس للغيطانى مودعاً، وأكاد أراه يقف بين أحباء بعد طول غياب، يقبل نجيب محفوظ، ويشد على يدى إبراهيم الرفاعى وعبدالعاطى ويحتضنهما فى شوق.
يعز علىّ فراق الغيطانى.. لكن المحاربين لا يموتون.. يا جمال.