تقريباً.. مرت خمس سنوات، منذ التقيت بالرجل وهو قائد بارز بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة لأول مرة، وحتى سمعته بالأمس وهو رئيس استثنائى يتحدث أمام البرلمان لأول مرة.
لم يتغير شىء فى الرجل إلا بدلته.
نفس الجدية السمحة، ونفس الإيجاز فى غير إخلال. نفاذ إلى صلب الموضوع وجوهر القضية.
رؤية واضحة، واستقامة فى العرض والتعبير تبدد أى ضباب. حتى الزمن الذى استغرقه حديثه المتصل فى اللقاء الأول، هو نفسه الزمن الذى أمضاه فى بيانه الأول.
ليس من هواة الإطناب فى غير مقتضى، إذا أعاد ذكر عبارة، لابد أنها ذات مغزى وأهمية. فى اللقاء كرر عبارة «إنقاذ الدولة المصرية»، وفى البيان كرر عبارة «الدفاع عن الدولة المصرية وإنجاز مشروعها الوطنى».
المشروع الوطنى الذى تحدث عنه الرئيس السيسى بالأمس هو بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة تقوم على دعائم الوطنية والعدالة والحرية. وتحت هذا العنوان تأتى برامج ومشروعات وتفاصيل سمعتها من اللواء، ثم الفريق أول، ثم المشير، ثم المرشح الرئاسى، ثم الرئيس عبدالفتاح السيسى مرارا، ولو جاء على سردها بالأمس، لاستغرق البيان ساعات طوالا ممتدة.
< < <
بريق الأمل، وفيض الإخلاص، وعطر التواضع، الذى رأيته، ولمسته، وتنسمته يومها من الرجل، ممزوجا بعزم لا يلين ووطنية جياشة تغمر مجالسيه، لم يتبدل ولم يفتر، برغم أعباء ألقيت على كتفيه، ورغم هموم لا تخفيها نظراته بعد أن أصبح رئيسا للدولة، بل مناط أمل شعب ومعقد رجاء أمة.
أكثر كلمة ترددت فى بيان السيسى أمس كانت هى «الأمل». الأمل الذى يراه فى البشر والأرض والحلم العريض، تلتها فى الذكر كلمة «العمل»، بكل مشتقاتها نعمل، وسنعمل، وعمل.
لم يذكر السيسى أبداً كلمة «أنا»، واقتصد كثيرا فى سرد ما أنجزه خلال ٢٠ شهراً وهو هائل، وأوجز فى عرض التحديات والمخاطر التى يجابهها الوطن وهى هائلة، لكنه اكتفى بذكر حقيقة تعلمها من دروس التاريخ وعبرة الحاضر، هى أن إرادة الشعب المصرى أقوى من كل المكائد.
< < <
يعلم السيسى أن هناك من يحاول إبعاد شباب مصر عن مشروعها الوطنى عمدا، أو يتسبب فى ذلك جهلا بينما هم فى نظره طاقة الأمل، وعماد دولتنا الشابة. ويعلم أن هناك من يحاول أن يوهم البسطاء أن لا مكان لهم فى مصر الجديدة، بينما لم يقبل هو عناء المسئولية إلا من أجل فقراء هذا البلد الذين نذر نفسه ليغير حياتهم.
مباشرة وبمنتهى الوضوح.. قال السيسى للشباب: «أرى فيكم الأمل والمستقبل وثقتى فيكم بلا حدود».. ومن يعرف الرجل حق المعرفة، لابد أن يدرك أن الأمل والثقة سوف تترجمان عملاً ومشاركة وإجراءات فى الأسابيع، بل الأيام المقبلة.
وبنفس الوضوح والصراحة.. خاطب السيسى الفقراء بعد أن لمس بعضاً من خطوات اتخذت بقوله: «ما زال أمامنا الكثير لنقدمه للبسطاء من أبناء أمتنا الذين عانوا على مدار عقود من الإهمال والتجاهل والتهميش».. ومن يعرف ما يكابده الرجل وهو يحاول أن ينجز للبسطاء وعده لهم رغم صعوبة الظروف وشح الموارد، لابد أن يتأكد من أن الكثير الذى يريد تقديمه، سيجد طريقه الى الكادحين والعارقين، بطريقة مباشرة وغير مباشرة بأقرب مما يظنون.
< < <
بيان الرئيس الشامل رغم تركيزه، يحتاج إلى قراءة أكثر من مرة، ولعل أولى الناس بقراءته بإمعان، والخروج من الرؤية الشاملة والمشروع الوطنى، ببرنامج عمل طموح وموقوت بجدول زمنى، هى الحكومة رئيساً وأعضاء، فليس من المقبول بعد بيان كهذا، أن نستمع شعباً وبرلمانا من الحكومة نهاية الشهر إلى بيان تقليدى إنشائى، لا يقدم حلولاً غير تقليدية، وبرامج فعالة قابلة للتنفيذ، ولا يقتحم جوهر المشاكل وعوائق البيروقراطية.
< < <
ابتسم الرئيس مرتين وهو يستمع إلى نداءات نائب أو أكثر من داخل القاعة أثناء إلقاء بيانه.
مرة.. حين قال نائب «النوبة يا ريس»، وكأن الرئيس حين تحدث عن إقامة الدولة الحديثة، وبناء مصر الجديدة، ونشر العمران فى ربوعها، وحين خاطب كل أبناء الوطن، لم يكن يقصد كل أرجاء الوطن وكل بنى وطنه من رفح إلى السلوم ومن الإسكندرية إلى أبوسمبل ومن حلايب إلى العوينات، دون تفرقة بين بحرى وصعيد وبين سيناء والدلتا والوادى والنوبة والواحات.
ومرة.. حين أشار نائب إلى «سد النهضة».. ولم يكلف النائب نفسه بأن ينتظر إشارة الرئيس الموحية فى نهاية خطابه وهو يتحدث عن «سريان نيلنا الخالد حقولا تزهر وتثمر». ولعل كلمة «سريان» توجز كل المعانى التى فصلها الرئيس فى خطاباته وبياناته الأخيرة وهو يقول بوضوح وحسم: «مياه النيل مسألة حياة أو موت.. ولن أضيعكم».
يدعونا الرئيس إلى اغتنام فرصة تاريخية سانحة لبناء بلدنا، وكعادته وهو يخاطب الجماهير لم يشأ أن يقول: علينا ألا نهدرها. وإنما قال: «سنبنيها». وأقول: لن نضيع الفرصة التى جاءتنا على يديك وسنبنى بلدنا.