• »‬شعرت بإحباط لرحيل صديقي ومترجم أعمالي إلي الانجليزية الدكتور فاروق عبدالوهاب، لكم كان وجوده سيؤازر إقامتي وبدء التدريس في الجامعة..» • اعتدت السفر إلي نيويورك منذ أن عمل ابني محمد في البعثة المصرية بالأمم المتحدة، وبعد استقرار ابنتي في المدينة إثر زواجها، ثم سفر زوجتي لعلاج طويل استمر أكثر من ثلاث سنوات، في العشرين من مايو وُلد حفيدي مالك، وضبطت موعد سفري بحيث يتوافق مع عيد ميلاده، إذن يمكن لي حضور الحفل التذكاري المكرس للدكتور فاروق عبدالوهاب الذي رحل فجأة قبل أن أبدأ مهمتي كأستاذ زائر بمركز دراسات الشرق الأوسط بالجامعة الذي كان يشغل فيه موقع أستاذ كرسي ابن رشد الفيلسوف العربي الأندلسي المعروف. الحق أن رحيله المفاجئ أحبطني، فاروق لم يكن صديقاً قديماً فقط، إنما كان مترجماً قديراً لأعمالي وقبل ذلك قارئا متعمقا لها، وكثيراً ما أقول، من أراد أن يعرفني فليقرأ ما كتبت، في الحياة اليومية لا نكون علي حقيقتنا، نضطر أحياناً أن نبدي خلاف ما نبطن، يُملي علينا المجتمع تقاليد تحد من تلقائيتنا، طبعاً أتحدث عن التفاصيل في المعاملات وليس عن المواقف المبدئية الفاصلة، في الكتابة يكون العصب مجرداً، والأعماق بادية، خاصة إذا تضمنت شجوناً ذاتية، أو اعتبرت الذات مركزاً للموضوع مثل »‬كتاب التجليات» و»‬دفاتر التدوين» و»‬حكايات هائمة» التي تنشر الآن بأخبار اليوم كل سبت، فاروق قريب جداً، وكان وجوده  سوف يكون عوناً كبيراً لحضوري، لم أكن أدري ما تخبئه المقادير، سافرت منتصف مايو، في التاسع والعشرين اتجهت إلي مطار لاجوارديا بنيويورك المخصص للرحلات الداخلية، الولايات المتحدة قارة، بعض الرحلات الجوية تستغرق أكثر من ثماني ساعات، الطيران إلي شيكاغو يستغرق حوالي ساعتين، قامت ابنتي بالحجز عبر الانترنت، كل عمليات البيع والشراء تتم بالانترنت أو بطاقات الائتمان، في أول زيارة لمحمد ابني رحت أتابعه بدهشة وهو يشتري الزبادي وعسل النحل إفطاري المعتاد من الانترنت، في مطار شيكاغو الضخم كان ينتظرني طالب دراسات عليا يتحدث اللغة العربية بطلاقة ورصانة من تلاميذ الدكتور فاروق، صحبني إلي منطقة الجامعة، مررنا بمنطقة واضح أنها فقيرة، معظم سكانها زنوج، أحفاد الأفارقة الذين اختطفوا من القارة التي أنتمي إليها واستخدموا كقوة عمل في ظروف غير إنسانية تعتبر وصمة في تاريخ الإنسانية لم تنته إلا بحرب بين الجنوب والشمال ومن خلالها تأسست الولايات المتحدة التي نعرفها الآن، وصلنا إلي منطقة الجامعة، توقفنا أمام مبني الإقامة الدولي، مبني علي الطراز القديم يستمد أصوله من عصر النهضة، الرغبة في إيجاد تاريخ أعمق تحكم العمارة في الولايات المتحدة، أما المرجعية فللامبراطورية الرومانية، يبدو هذا واضحاً في العاصمة واشنطن، المبني الدولي عبارة عن فندق، كنت قد طلبت غرفة بحمام مستقل، لا يعنيني مستوي الإقامة، أورثتني أنشطة الكشافة قدرة علي التكيف لكن شرطي عند أي دعوة أتلقاها الإقامة بمفردي ودورة مياه مستقلة، فوجئت أن الغرفة التي سأقيم فيها بالطابق السادس ولكن الغرف ذات الدورات المستقلة محجوزة كلها، انتابني ضيق، ناقشت موظفة الاستقبال، سألت عن إمكانية الاستبدال بجناح، لكن لم يكن ذلك ممكناً، إذن.. لا مفر، الحمام ودورات المياه تبعد عن الغرفة حوالي ثلاثين متراً، مرافق للرجال وأخري للنساء، في إحدي الليالي الثلاث قلقت فجراً، اتجهت إلي الحمام، فوجئت في الممر بفتاة شابة، عارية إلا من قطعة واحدة، تمشي بثقة، أصبت بارتباك، وليت البصر سريعاً، وكأني أنا المستهدف، لم أعتد ذلك، ولا أدري كيف يكون التصرف، هل أستمر صامتاً؟، هل أبادلها التحية أم أن ذلك يعتبر نوعاً من التحرش، بشكل تلقائي وليت البصر سريعاً، تعرفت علي الكليات الإنسانية المتجاورة، علي مركز دراسات الشرق الأوسط، زرت مكتب فاروق، علي مقعده الذي اعتاد الجلوس عليه وضع أحد تلاميذه زهرة تحية له، كان محبوباً، عطر السيرة، تعرفت إلي زوجته الدكتورة كيا التي أمضي معها السنوات الست الأخيرة من عمره في هدوء بعد حياة موفقة علمياً، متعثرة شخصياً، التقيت شقيقه وأسرته اللذين جاؤوا من مصر مع لحضور المناسبة الأخيرة، كنت أتأمل المباني والمكان الهادئ الغارق في الخضرة، هل سأتحمل البقاء هنا أربعة شهور؟ لم أكن أدري ما تخبئه لي الأقدار، حديث طويل جري بيني وبين الدكتور فاروق عبدالوهاب مصطفي، بالتحديد أول أبريل الماضي، حول كتاب التجليات، كان الجزء الأول منها قد صدر في الطبعة الانجليزية منذ أسابيع، خطط مارك لينز مدير قسم النشر بالجامعة الأمريكية لإصدار الرواية في ثلاثة أجزاء كما صدرت الطبعة الأولي منها في أوائل الثمانينيات عن دار المستقبل العربي التي أسسها الأستاذ محمد فائق وللأسف توقفت، كان صوته هادئاً، بطيئاً، عميقاً، أبدي ملاحظات حول الطبعات المختلفة، وحدثني عن استعداده لترجمة ما تبقي وعن أمور أخري، مرت أيام معدودات، في الرابع من أبريل فوجئت برسالة عبر البريد الالكتروني من زوجته الأستاذة كاي حككيان، زميلته بالجامعة وتدرس الأدب العربي بالجامعة، تعرف إليها عام ألفين وأربعة، تزوجا عام ثمانية، أمضي برفقتها السنوات الخمس الأخيرة في هدوء واستقرار بعد حياة موفقة علمياً، متعثرة في الجانب الشخصي أحياناً، ترجع معرفتي به إلي الستينيات، عندما كان يعمل في كلية الآداب، يدرس الأدب الانجليزي، ويكتب مقالات نقدية عن المسرح المصري ويشارك في تجمعات المثقفين المصريين وقتئذ، وأشهرها ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية في مقهي ريش التي كانت محوراً مهماً للقاء المبدعين ببعضهم، كان تلميذاً للدكتور رشاد رشدي وصديقاً حميماً للدكتور سمير سرحان والدكتور عبدالعزيز حمودة والدكتور فوزي فهمي والكثير من المثقفين، لم يكن علي خلاف حاد مع أحد، يليق به هذا الوصف المصري »‬طيب» وظل بنفس سماته حتي بعد إقامته الطويلة في الولايات المتحدة، لا أعرف الظروف التي هاجر فيها إلي أمريكا عام ١٩٦٨، ولكنه اعتباراً من ذلك التاريخ استقر بجامعة شيكاغو وارتقي في سلكها العلمي حتي أصبح أستاذاً لكرسي ابن رشد ولدراسات الشرق الأوسط، كان ملازماً لطلابه من مختلف الجنسيات، بحجرة التدريس اعتاد الجلوس إلي مقعد معين، عندما وصلت إلي مركز دراسات الشرق الأوسط كان أحد زملائه يجلس علي نفس المقعد، أشار إليه، قال إن الدكتور فاروق كان يجلس دائماً في نفس المكان، وصباح اليوم التالي لرحيله وضع أحد زملائه أو طلابه، لا أحد يعرف بالضبط وردة في نفس مكان جلوسه. القاعة الشرقية مساء الجمعة، الحادي والثلاثين من مايو، مضيت إلي القاعة الشرقية التي تحتل مساحة فسيحة في مبني يوجد فيه المتحف المصري الذي أسسه واحد من أعظم علماء المصريات في العالم، جيمس هنري برستد الذي أُجلّه، ولم أكن أدري أنني سأجلس مكانه يوماً. القاعة كلاسيكية الطراز، توحي بقاعات الكنائس، جميع دور العلم في الغرب، خاصة العريق منها يحمل سمات دينية، هذه أصول ترجع إلي مصر القديمة، العلوم كانت في المعبد، من هنا يحمل لقب »‬الحكيم» في العامية المصرية معان متعددة فهو الطبيب والفيلسوف والمعلم، انتقل ذلك إلي اليونان ثم إلي أوروبا، ورغم أن الولايات المتحدة تعتبر دولة شابة بالقياس إلي دول العالم القديم إلا أن الحرص علي العتاقة تجده في العمارة. والأثاث، المرجعية باستمرار الحضارات القديمة، بالتحديد اثنتان، المصرية »‬مسلة واشنطن» واليونانية، الاغريقية »‬مبني الكابيتول، المتاحف الكبري، بعض الوزارات» في جامعة شيكاغو تتجاور الحداثة مع العتاقة، ثمة مبني تبرع ببنائه روكغلر الرأسمالي الشهير والذي تبدو آثاره في كل موقع، شيد علي هيئة كنيسة نوتردام الفرنسية، لمحت زملاء الدكتور فاروق، فريد زونر، أوربت بوشكين، فرانكلين لويس، مايكل سنز، والسيدة الطاهرة كتب الدين »‬أعجبني اسمها» تنتمي إلي طائفة البهرة أحفاد الفاطميين ويقيم منهم في القاهرة حالياً خمسة عشر ألفاً تقريباً، القاعة التي قدرت عدد مقاعدها بحوالي مائتي مقعد، لا يوجد بها مكان واحد خال، عدد كبير قدرت أنهم من الطلبة يقفون إلي الخلف، حان الوقت الذي يبدأ فيه الحفل، عزفت موسيقي كلاسيكية من موسيقي باخ، ومقطوعة من موسيقي البلوز »‬نوع من الجاز حزين جداً وكان فاروق يفضلها وقد حدثني يوماً عن تأثيره بها ودورها في مساعدته علي تجاوز محن شخصية مرّ بها»، بدأ الأستاذ نيوفان دن هوت رئيس قسم لغات الشرق وحضاراته، تحدث عن موقع الدكتور فاروق وعلاقته بالجامعة وموقعه في قلوب زملائه وتلاميذه، علي شاشة كبيرة كانت تتوالي صور الراحل ومعظمها مبتسم، في الجزء الثاني من الحفل دعيت إلي إلقاء كلمتي وكانت باللغة العربية، وعلي الشاشة تظهر ترجمة لها قامت بإعدادها زوجة الراحل السيدة كاي، نص الكلمة الفقرة التالية من اليوميات، ثم تحدث شقيقه الأستاذ صفاء مصطفي والذي حضر برفقة زوجته، ألقي تفاصيل عن حياة الفقيد وطفولتهما معاً التي بدأت من مسقط رأسهما في طنطا، ثم كينيث جون المسئول عن حقوق الإنسان في شيكاغو، ومارجريت ليتفين من جامعة بوسطن، وهي متخصصة في المسرح المصري، تتقن العربية، ألقت قبل يوم المحاضرة عن المسرح المصري حرصت علي حضورها والمشاركة في المناقشات التي دارت بعدها، توالت الكلمات من بيللي هوليداي، وجون وود، وأوربت باشكين، وكلهم زملاء الراحل، الملاحظة أن الحفل رغم كونه تأبينياً لراحل، إلا أن الكلمات حفلت بالكثير من التفاصيل التي كان بعضها ساخراً، يثير ضحك الجمهور، ضحكات جماعية، مفاجئة كرد فعل علي بعض الذكريات المتعلقة بالراحل، ضحكات تبدأ فجأة وتنتهي كما بدأت، عندما عدت إلي مقر إقامتي ورحت أستعيد تفاصيل الحفل، اللون البني القاتم للقاعة، توالي صور الدكتور فاروق علي الشاشة، بعضها أثار ضحك الحاضرين، كان فاروق علي سجيته وبساطته، مدير المركز دعا من يرغب في إلقاء كلمات قصيرة تشبه الرسائل الموجزة، هذا الجزء كان شديد الحيوية من الحفل، خاصة عندما تنتهي رسالة ما بجملة مثل »‬أستاذ فاروق.. لكم نحبك»، خلال هذه الكلمات ترددت الضحكات أيضاً، وعندما استعدتها اكتشفت أن ذلك الضحك من أشد ما سمعت تعبيراً عن الحزن في مواجهة الفقد، ورحيل الأحباب ومن نعتز بهم، ضحك له رجع وترجيع، له أصول تبقي في الروح ملقية بآثار دموع، اختتم الحفل بكلمة زوجته الأستاذة كاي، إنها زوجة فاروق الثانية، أما الزوجة المصرية الأولي التي هاجرت معه إلي الولايات المتحدة والمقيمة ماتزال فقد غابت تماماً عن الحفل! كاي تتحدث بدت لهجة زوجته هادئة، واضحة.. هالو، كل منكم.. قبل كل شيء يجب أن أشكر الجميع لمجيئهم للحديث عن فاروق. شكرت الذين قاموا علي تنظيم الحفل، ثم قالت إن فاروق كان محباً للحياة، متعدد الإمكانيات، وكثيراً ما كان يضطرب نومها ليلاً إزاء نشاطه عندما يتحرك كثيراً ليعد القهوة، أو فنجانا من الشيكولاته تمهيداً لعمل طويل، إما أنه يعد محاضرات للتدريس أو يواصل ترجمة أحد الأعمال الروائية التي اقترب موعد تسليمها، كان داخله مصادر مختلفة للعمل وللرغبات، اهتماماته متعددة، كان لديه شغف بتاريخ الكمبيوتر، والتعامل  معه ومتابعة تطوراته كان دائم التردد علي متحف تطور الكمبيوتر يحتفظ في عقله بموسيقي لا يكف عن سماعها من الايبود الذي قام بتسجيل مختارات من الموسيقي عليه، والآيبود جهاز في حجم علبة سجائر صغيرة يمكن تسجيل محتوبات إذاعة كاملة عليه، كان محباً للموسيقي، كان ديمقراطياً، مؤمناً بالتعايش بين أصحاب العقائد المختلفة، يصغي إلي الجميع بهدوء ويتقبل ويتحاور، كان يتمتع بروح ساخرة، محب للنكتة، كان مشاركاً للطلبة العرب في جميع أنشطتهم خاصة عند وقوع حوادث كبري في لبنان أو غزة، كان يشارك في أعمال البيت، ويحرص علي اختيار لوازمه من البقال، يجيد الطبخ، خاصة البامية التي كان يعشقها، كان يعد الطعام بنفس الدقة الشديدة التي يعمل بها عند تحضير الدروس أو الترجمة، أحب التدريس وأحب تلاميذه وبادلوه حباً بحب، فاروق كما عرفته لم يحبني ويبادلني العاطفة فقط، إنما كان يحترمني أيضاً، منحني الثقة، الشعور بالرفقة الآمنة، وكان راضياً متقبلاً ما مر به في حياته. كانت كلمة زوجته كاي مؤثرة جداً بهدوئها وتفاصيلها، في نهاية الحفل توالت صور عديدة، لحظات ملتقطة من حياته، بعضها كأني أوشك علي الحديث إليه، لم يكن ثمة فرق بين فاروق الذي عرفته، وفاروق الذي رأيته في الصور، في اليوم التالي إحدي صوره تصدرت الصفحة الأولي لأكبر صحف شيكاغو وإحدي كبريات الصحف في الولايات المتحدة »‬شيكاغو تريبيون» و»‬شيكاغو الارون». »‬رحيل أستاذ العربية المحبوب عن سبعين عاماً» قبل أن تنهي زوجته كاي كلمتها، أخرجت هاتفها المحمول، إدارته، وسمعنا صوت الدكتور فاروق عبدالوهاب يقول بالانجليزية بصوته المميز: »‬هاي.. مع السلامة..» هنا طفرت دموعي.. الخروج إلي النهار فيما يلي نص كلمتي عن فاروق : »‬.. جري ذلك خلال الزيارة الأخيرة إلي القاهرة التي قام بها الأخ، الصديق، من أدين له بالفضل الدكتور فاروق عبدالوهاب، أذكر كل لحظة كأنها تمر بي الآن، وبيننا السيدة كاي رفيقة دربه ورحلته، إذ شهدت ما أقوله وأستعيده.. عدت إلي البيت بعد الغروب، بمجرد دخولي رن جرس الهاتف، كنت مرهقاً بعد يوم طويل مزدحم بلقاءات شتي وتفاصيل عمل صحفي مرهق، رفعت السماعة لأجيب، أعرف صوته، إيقاعه، خشن إلي حد ما، عميق، معبر عن نفس جياشة، هادئ دائماً، لكنه في تلك المحادثة لم يكن ذلك الذي اعتدته، »‬يا بن أحمد الغيطاني.. أجبته دهشاً.. لم يحدث أن ناداني بذلك »‬نعم..» »‬تعال فوراً.. تعال الآن..» تساءلت عما جري؟، قال إنه ينتظرني، لن يقبل المراوغة، ردد اسم أبي الذي كان يتصل بي للحديث عنه وليسمع مني، كان يعمل في ترجمة »‬كتاب التجليات»، ومن خلال علاقتي به أيقنت أنه لا يقدم علي ترجمة عمل إلا إذا تعلق به وتقبله، بالطبع تختلف الدرجات، غير أنني أذكر محبته وتمثله لأحداث وتفاصيل »‬وقائع حارة الزعفراني» التي قرأها منذ صدورها عام ١٩٧٦، كان يعرف شخصياتها وكأنهم سعوا في حياته، خالطهم وعاشرهم، هام بالنص، بذلك جهداً في محاولة نشره بالانجليزية لسنوات، خاصة بعد أن اختاره الدكتور إدوارد سعيد لترجمة »‬الزيني بركات»، كان إدوارد سعيد قد قرأ الرواية بالعربية ورشحها للترجمة مطالباً بضرورة نقلها إلي اللغات الغربية، كتب مقالاً في الصنداي تايمز، أشاد فيه بالزيني بركات وروايات الياس خوري، صدرت الزيني بركات عام ١٩٨٥ عن دار لوسوي في باريس، بمساعي إدوارد سعيد ثم توقيع عقد مع مطبوعات بابوين لإصدار الترجمة الانجليزية، وقع اختيار إدوارد سعيد علي الدكتور فاروق عبدالوهاب باعتباره أفضل من يمكنه ترجمة هذا النص الصعب والمكتوب بلغة القرن السادس عشر، جاءت الترجمة مؤكدة لرؤية إدوارد، بعد صدورها عام ١٩٨٨ كان الدكتور فاروق عبدالوهاب قد فرغ من ترجمة »‬وقائع حارة الزعفراني»، أقدم علي إتمام الترجمة بدون اتفاق مع أي دار، إنما حباً في النص، وتعلقاً به، ذلك التعلق الذي عرفته بعد أن قرأ كتاب التجليات، مازلت أذكر صوته ذلك المساء وهو يطلب مني عبر الهاتف: »‬تعال فوراً.. أستحلفك بأحمد الغيطاني» لم يكن ثمة خيار، عدت مرة أخري إلي الطريق، أسكن جنوب العاصمة، ويقع مسكنه المطل علي النيل شمالاً، قطعت حوالي ستين كيلو متراً مستغرقاً في صوته وندائه وما وصلني منه، عرفته اسماً قبل أن أعرفه شخصاً، كنت قارئاً مواظباً لمقالاته في مجلة المسرح، والمجلات الثقافية الأخري، كان رغم وضعه الأكاديمي المتميز الراسخ حاضراً بقوة في الحياة الثقافية العامة، كان متخصصاً في النقد المسرحي، يترجم نصوصاً نقدية ومسرحية إلي العربية، هكذا يمكن اعتباره جسراً بين ثقافتين إنسانيتين، بعد يونيو ١٩٦٧ وهذا تاريخ له شأنه، مؤثر، مفصل في مسيرة جيلنا كله والأجيال التي سبقته أو تليه، اختار أن يرحل، جاء إلي الغرب واستقر في جامعة شيكاغو، إلا أنني عندما أستبعد السنوات التالية لانتقاله أكاد أوقن أنه لم يغادر مصر، كان حاضراً بإنتاجه الثقافي، وفي اجازاته الصيفية الطويلة، زارني في بيتي، وتعرف إلي أسرتي، إلي مكتبتي، تقصي أخباري عن بعد وقرب، لم يتأخر عن إبداء ملاحظات دقيقة عما يقرأه، لم يكن متابعاً دقيقاً لإبداعي الروائي والقصصي، إنما لكتاباتي الصحفية، سواء تلك المتعلقة بالحياة الثقافية خاصة خلال رئاستي لتحرير »‬أخبار الأدب» التي أسستها عام ١٩٩٣ وأمضيت سبعة عشر عاماً رئيساً لتحريرها، كان من قرائها المواظبين والمشاركين في تحريرها ونقادها بالرأي، كنت أصغي إلي ما يبديه بعمق، كل ما كان عنه كان بدافع الصدق والإخلاص وتلك المحبة الصافية، كان سعيداً بصدور »‬وقائع حارة الزعفراني» وكان المفروض أن يترجم الجزئين الثالث والثاني من كتاب التجليات، خلال السنوات الأخيرة لم يأتني صوته عبر المسافات البعيدة أو القريبة إلا هادئاً، مصحوباً بذلك الصوت الخفي، كان ملازماً لي باستمرار، خاصة في المحن والظروف الصعبة التي أمر بها، كان صديقاً رائعاً، وكنت أطمئن دائماً عندما يخطر لي ساعياً في ذاكرتي عبر الأزمنة المختلفة التي عرفته فيها، كنت أطمئن وتدركني سكينة عندما أعي أنه هناك، ليس مهما أين؟، المهم موجود، يسعي، هذا الهدوء وذلك الرضا اللذاين شعرت بهما في سنواته الأخيرة أرجعه إلي الرفقة الحلفية للسيدة كاي التي وفرت له ذلك الحنان، وتلك السكينة، هذا ما نما إليّ خلال اتصالاتنا الأخيرة والتي سبقت انتقاله المفاجئ، المباغت. أعود إلي تلك الليلة.. عندما وصلت إلي بيته، كان يجلس في صدارة الصالة، هب يصافحني ويعانقني، دموعه ساخنة في ذاكرتي، كان يردد: »‬أوصيك بأحمد الغيطاني..» توجه بعد أن فرغ من ترجمة »‬كتاب التجليات»، توحدت به، جمعنا أبي الذي خرج قبلنا إلي ضوء النهار كما كان يصف أجدادنا المصريون الرحيل الأبدي، لم يمر عام، بل أقل من عام، خرج الصاحب النجيب إلي ضوء النهار، وبقيت أنتظر، وأستعيد هذا الحال الغريب الذي جري لي تلك الليلة. في الزمن المصري القديم كان آخر طقس يودع الراحل به ما يُعرف بفتح الفم، تصاحبه صيحة من المودع، لا أجد أنسب منها الآن، إذ يقول: »‬انهض.. إنك لست بميت..»