•هي ليست ككل الأرض التي نمشي عليها، ولكنها شيء مختلف تماما عن كل الأراضي نعرفها، وقد تكون هي مثلاً التي تقترب من نوع الأرض التي هي علي سطح القمر! • قبل أن ينتهي لويس آرمسترونج من تدريباته للسفر إلي الفضاء ـ والتوجه إلي القمر ـ قال له في »ناسا»‬ مركز التدريبات والتوجيهات وعلوم الفضاء.. قالوا له: أنت الآن مستعد للسفر إلي الفضاء ولكن ـ يبقي شيء واحد.. سألهم: وما هو؟!.. قالوا: كيف تمشي علي أرض القمر، وسألهم، وكيف لي أن أعرف؟.. قالوا: أن تستطيع المشي علي أرض: أيسلندة؟.. لماذا؟.. سأل هو ـ فأجابوا ـ لأنها في تصورنا هي الأقرب إلي أرض القمر. صحيح نحن لا نعرف أرض القمر هذه وكيف تكون، ولكننا نتصور أن أرض أيسلندة قد تكون هي الأقرب لذلك، لأنها أرض ليست ككل الأرض، إنها الأرض التي كانت في بطن المحيط، ثم ارتفعت إلي سطح الأرض، لا إلي سطح الماء، في مكان هو الفاصل ما بين القارة الأوروبية والقارة الأمريكية، ولأنها كذلك، فهي ليست ككل الأرض التي نمشي عليها، ولكنها شيء مختلف تماما عن كل الأراضي نعرفها، وقد تكون هي مثلاً التي تقترب من نوع الأرض التي هي علي سطح القمر! ومنذ سنوات قد تقترب من العشرين عاماً، وصلني خطاب من إميل عزت ـ رجل السياحة المصري الاسكندنافي، والعامل في مجال الطيران في اسكندنافيا، مجموعة الدول في شمال الأرض، مدخلها: الدنمارك، السويد والنرويج، الدولة التي تصل إلي شمال الدنيا حتي تدخل في الدائرة القطبية الواصلة فعلاً إلي آخر نقطة في الشمال.. المهم ـ وصلني خطاب يقول فيه: إننا مدعوون لحضور مؤتمر سياحي في استكهولم العاصمة السويدية ـ باعتبارنا من الأعضاء المؤسسين لمجموعة الكتاب السياحيين المصريين.. في الفترة من كذا ـ إلي كذا.. وأن ملك السويد شخصياً ـ الملك جوستاف سيدعوكم للقيام بأية رحلة تحددونها في مجال هذه الدول الاسكندنافية، وسألت إميل عزت: وهل تقع أيسلندة ضمن هذه الدولة  قال: لا ـ ولكنني سأستأذن الملك إن كان هذا من الممكن؟! وجاءت الإجابة بـ : نعم.. من الممكن، وكانت سعادتي غامرة، لأنني لم أقم بزيارة أيسلندة من قبل، ولا أتصور أن تتاح لي هذه الفرصة مرة أخري. وبالفعل بدأنا رحلتنا إلي السويد، وأمضينا في أكبر فنادق استكهولم بضعة أيام حضرنا فيها هذا المؤتمر السياحي الكبير في قلب عاصمة الشمال التي تتكون من أربع  عشرة جزيرة تتوسطها الجزيرة الواقعة عليها مدينة استكهولم، والتي أسموها باسم الجزيرة التي تعلوها تبة من الأرض وضع في أعلاها عصا كبيرة، في قديم الزمان ترشد السفن إلي أن هذه هي الأرض التي يلجأ إليها الناس، فـ »‬هولم» إشارة إلي المنازل، واستوك، إشارة إلي العصي التي ترشد الناس أو القوارب إليها. وقصر الملك جوستاف ـ الذي كان شاباً في ذلك الوقت ـ يقع في قلب المدينة في مواجهة بحيرة ليست بالكبيرة، وقريباً أيضاً من الفندق الذي كنا ننزل فيه، وكثيراً ما يتمشي ومعه كلبه، علي رصيف البحيرة، يستطيع أبناء الشعب السويدي أن يلتقوا به ويكلموه في أي موضوع شاءوا وقد فعلنا نحن ذلك فعلاً. المهم مضت أيام المؤتمر، وبدأنا الاستعداد للسفر إلي قلب المحيط الأطلنطي، حيث توجد أرض أيسلندة.. وعاصمتها »‬ريكيافيك» أو خليج ريكيا، وقد وصلنا إليها بعد أن رأينا من نافذة الطائرة أننا قد مررنا أو طرنا فعلاً فوق جنوب »‬جرين  لاند» واحدة من أكبر جزر الدنيا، والتي تتبع حالياً مملكة الدنمارك. المهم.. أننا نزلنا إلي ريكيافيك عاصمة أيسلندة التي هي دولة قائمة بذاتها، يتحدث أهلها لغة هي بين الانجليزية والنرويجية، فقد استوطنتها المجموعات القادمة من انجلترا والمملكة النرويجية منذ سنوات بعيدة وأصبحت لغتهم   خليطا بين اللغتين!. واتجهنا إلي الفندق لنبيت ليلتنا الأولي ولنستعد لأن نمشي علي الأرض التي مشي عليها أول من مشي علي أرض القمر!. وانتهينا من طعام الإفطار. وبدأنا الخروج إلي أرض أيسلندة. عالم فسيح مليء بالمتغيرات. وأول الطقوس السياحية هنا أن نمشي علي أرض الجزيرة.. وأول جملة قالتها المضيفة لنا: إن هذه الأرض ليست ككل الأرض التي تعرفونها في أي مكان جئتم منه أو أية دولة قمتم بزيارتها.. والسبب؟.. أن هذه الأرض كانت في قاع المحيط عاشت آلاف أو ملايين السنين هناك في القاع.. وبالعوامل الطبيعية أو بالتغيرات المناخية ـ أو ربما ـ بفعل الزلازل المختلفة ارتفعت هذه الأرض لتكون جزيرة من الجزر الكثيرة التي تقبع في قلب المحيط الأطلنطي.. المهم أننا هكذا وجدنا، وهكذا نعيش، قالمت الطوائف المهاجرة إلي هنا سواء من النرويج أو من الجزر البريطانية بالعيش هنا وتكوين الدولة، حاولت أن تعرف أي الأماكن هي أصلح للسكني، لتكوين حياة طبيعية، والمدن القليلة سواء كانت كبيرة أو صغيرة ولكنها غالباً ما تكون عند حواف الجزيرة أو سواحلها.. والسواحل مليئة بالخلجان، والخليج الواحد يسمي »‬فيك» ومن هنا جاء اسم العاصمة »‬ريكيافيك» أو خليج ريكيا، وهذه الخلجان هي الأماكن التي تتواجد فيها الأسماك بكثرة، وبالتالي تتولد فيها.. أنثي الأسماك، تضع بيضها، وتأتي الذكور لتلقيحها في هذه النتوء الآمنة. ولكثرة ما عندما من خلجان فقد أصبحنا من أكثر بلدان العالم ثروة ببيض الأسماك المختلفة والتي يطلق عليها »‬الكافيار» طعام الأغنياء. في هذه اللحظة كنا قد نزلنا من الأتوبيس الذي أقلنا إلي أرض الجزيرة غير بعيد عن الفندق، ونزلنا وبدأنا نلتف حول المضيفة أو المرشدة السياحية.. ولكنها وقفت وقالت: هنا فقط، نستطيع أن نلتف كجماعة، بعد هذا لابد أن نمشي في طابور طويل والواحد منا وراء الآخر وأول الطابور يجب أن يمشي ورائي تماماً،   يجب ألا يبتعد عن ظهري. ولأول مرة نسمع مثل هذا الكلام، فأنا واحد من الناس غالباً ما رأيت بلاد الدنيا جميعاً، ولاحظت المضيفة هذا الاستغراب فقالت نعم.. هنا الأمر مختلف.. نحن في جزيرة تيارات الهواء فيها قوية، والأرض ليست كأية أرض عادية، إنها أرض بركانية، أرضها تفور تمور.. أنصتوا لما تقول الأرض، إنها تغلي تحت أقدامكم، وتحتوي علي الكثير من السلفا ـ القاتلة ـ إنها تغلي بصفة دائمة ويخرج منها صوت كصوت الغليان.. تسمعونها.. تقول: بك، بك، بك.. نعم هي تغلو وتفور.. ومرة واحدة تفور وتندفع إلي أعلي علي ارتفاع عشرات الأمتار.. وهنا تحركها الريح كيف شاءت. والمضيفة السياحية منا لابد أن تكون دارسة لاتجاهات الريح، لأنها عندما تصطدم بهذه النافورات المتعددة، وتتجه للسقوط علي الأرض مرة أخري، فإنها قد تقتل من تلتقي به فوق سطح الأرض!.. ولهذا فالحذر مطلوب مطلوب، ولهذا أيضاً يجب أن نشكل طابوراً طويلاً يمشي وراء المضيفة أو مسك بذيل ثوبها! أرض الغرائب وكيف تعيشون علي أرض غارقة في السلفا وأي ماء تشربون؟.. سألت أنا.. وأجابت: نشرب ماء عذباً قد لا يكون له مثيل في الوجود!.. وبالفعل مشينا علي طريق أشبه بالممر.. لا تنحرفوا أبداً عن الطريق، هكذا نادت المضيفة.. لماذا؟.. سألنا، فأجابت: لأن كل الأرض حولكم من اللافا »‬الحمم البركانية» هذه الحمم عندما تجف فإنها أحدّ من كل السكاكين تقطع الأحذية والأقدام وكل ما يمشي عليها. وركبنا الأتوبيس لنذهب بعيداً.. وعلي بعد كيلو مترات قليلة وقفنا ـ ونظرنا إلي واحد من أكبر البراكين علي أرض أيسلندة، يحتل تبة عالية، لا نستطيع أن نقترب لأقل من كيلو مترين اثنين، فقط نظرة إلي أعلي، هناك فوق القمة يقبع البركان يغلي وينذر بعظائم الأمور. ـ وبالمناسبة ـ هو الذي أرسل حممه البركانية منذ عامين اثنين ودخانه الأسود الكثيف الذي غطي سماء الدنيا شمالاً فمنع طيران الدنيا كله من التحليق! لا أعرف كم من الوقت مضينا ولكنني أعرف جيداً أننا وقفنا مشدوهين أمام هذا الصرح العظيم والكون الغريب! سبحان الله.. وفي اليوم التالي.. أخذتنا مضيفتنا إلي بقعة من بقاع جنات الله علي الأرض.. ما هذه الخضرة، ما هذا الجمال، ما كُنه هذا الماء العذب، وأبعد من هذا، هذه الخراف، الأبيض صوفها ناصعة البياض، تجري وراءها صغارها، في منظر رائع جميل.. البعض يجري والبعض توقف أمهاتها لترضعها، آلاف الصور تلتقط أيضاً لهذه الجنة علي الأرض ومخلوقات الله تعيش فوقها في أمان وسكينة. هل هذه هي نفس الجزيرة التي تؤوي البراكين والحمم البركانية التي تخيف الدنيا كلها؟.. نعم.. إنها هي. زينة الأطباق من الكافيار الكافيار كثير، لهذا، فكما اعتدنا هنا منذ سنوات كثيرة أن يكون البقدونس هو ما يزين أطباق الكباب، فقد وجدت أنهم في مطاعم الدرجة الأولي في ريكيافيك يزينون أطباق الطعام بالكافيار، نعم يفرشون الأطباق بالكافيار، يأكلونه، أو يختلط عندهم بأطعمتهم المختلفة. إنه بلد الكافيار.. وكما هو الحال في كثير من البلاد الاسكندنافية والتي ينادون الأسماء بـ »‬ولد فلان» كما في صعيد مصر، فإنهم يفعلون كذلك، وهذه مسألة منتشرة في السويد مثلاً »‬تومسون» ـ ولد توم ـ و»‬اريسكون  ـ ولد إريك.. بل أزيد من هذا فإنهم ينادون البنات بـ»‬بنت فلان» بدليل أننا عند زيارتنا كانت رئيسة الدولة يطلق عليها »‬جودَّاتير » أو بنت جودا، فالأب اسمه أساساً جودا، والبنت هي البنت داتير، وجاء الاسم مركباً جودداتير، أو بنت »‬جودا». عجيب أمر هذه الدنيا..