• يستخدم خالد فهمي منهجاً جديداً يبث الحياة في الوثائق القديمة، ويبصرنا بالمجتمع والحياة التي كانت. وهذه الدراسة الفريدة عن شم المدينة مثال علي ذلك.. • خالد فهمي من أهم اساتذة التاريخ المصري الآن، ومما أفخر به مهنياً أن أول ظهور له في مصر وتعريف به كان في »‬اخبار الادب» من خلال حوار طويل اجراه معه الزميل والروائي الموهوب ياسر عبدالحافظ، درس في مصر ونيويورك وأصبح من أهم اساتذة التاريخ المصري في الجامعات الامريكية، أعتز كثيرا بصداقته ونبله الانساني واحترامه آرائي المخالفة له. إنه من قلائل يعرفون كيف يحتفظون بالود الانساني مع من يختلفون معهم، ولي في هذا المجال وقائع مذهلة وغريبة لمن كانوا أصدقاء حميمين لعدة عقود ثم فوجئت بمواقف ضارية منهم لأن لي موقفا معينا من قضية ما، أو صراع ما، ساحكي ذلك في اليوميات يوماً، اما الحديث عن خالد فهمي فبمناسبة قراءة بحث فريد عن القاهرة، عنوانه »‬حاسم الشم لمدينتين- القاهرة في القرن التاسع عشر»، محور دراسات خالد بدء الحداثة في مصر، بالتحديد منذ بداية القرن التاسع عشر، مع تولي محمد علي السلطة عقب الحملة الفرنسية، وبدء جهوده لبناء الدولة الحديثة، كتابه الاول »‬كل رجال الباشا» عن الجيش المصري، وله دراسة جميلة قصيرة عن سبيل محمد علي باشا في النحاسين، وكتاب »‬الجسد والحداثة» عن بدء الأخذ بنظام تشريح الجثث وما أثاره ذلك من اعتراض رجال الدين، يتعامل خالد فهمي مع الوثيقة، يدرسها جيداً، ومن خلال هذه الأوراق المهملة الملقاة في دهاليز دار الوثائق القومية يبث عناصرالحياة في المجهول، إنه يعتمد في دراسته الفريدة تلك علي الوثائق ايضا من خلال محاولات الادارة، خاصة الهيئة الصحية التي اسسها كلود بك المعروف بكلوت بك في مصر، ويوجد شارع مهم يحمل اسمه، ومن تناقضات الاسماء والمسميات ان اسم هذه الشخصية يرتبط بالدعارة التي ابطلت في مصر عام ١٩٤٩، وكان مقرها درب طياب المتفرع من شارع كلوت بك، زرت في مارسيليا متحفاً صغيراً للآثار المصرية، يوجد في مكان تاريخي كان مقراً للحجر الصحي »‬كارنتينة» وتلك الآثار مجموعة كلود بك عاد بها إلي فرنسا، وأنشأ هذا المتحف الذي يضم تفاصيل عن حياته، في بداية القرن التاسع عشركانت القاهرة في الجزء التاريخي فقط المعروف الآن بالقاهرة التاريخية الفاطمية، وكانت طبقا للتقسيم الفرنسي اثناء الحملة مكونة من ثمانية أقسام، لذلك نشأت في الجمالية أسمع تردد هذه الكلمة »‬التُمن»» أي مركز الشرطة، اشارة إلي البوليس، كان وضع القاهرة القديمة به مشاكل عديدة، ضيق الشوارع، وعتمة الحارات والدروب، وكان التخلص من النفايات يتم عن طريق الخليج الذي كان يمر بشارع بورسعيد الآن ثم ردم عام ١٩١٠، وتسبب ضيق الشوارع وانتشار النفايات في وجود روائح وابخرة اعتبرها الاطباء ومنهم كلود بك مصدراً للعدوي والأمراض، دراسة خالد فهمي منشورة في كتاب تذكاري لتكريم الاستاذ المؤرخ جورج اسكان لون، الذي يعتبر عميد دراسات الفن الاسلامي، وقد عاش في مصر منذ الخمسينيات  حتي زماننا هذا يدرس ويحاضر في الجامعة الامريكية، ويضم الكتاب عدداً من الدراسات المهمة المهداة إلي ذلك الاستاذ الكبير الذي لا يعرفه الكثيرون في مصر، ترجم الكتاب ونشر في المشروع القومي للترجمة. يتابع خالد فهمي جهود التحديث في القاهرة منذ الحملة الفرنسية، لكن التطور الأهم حدث في عهد الخديو اسماعيل الذي أسند إلي علي باشا مبارك مهمة انشاء مدينة جديدة موازية للقاهرة الفاطمية ولكن علي النسق الاوروبي، وبالتحديد باريس التي خططها المهندس هاوس مان بعد الثورة الفرنسية، ويعتمد التخطيط علي الشوارع الفسيحة الطولية »‬البوليفار» والميادين التي تتفرع منها الشوارع علي هيئة أشعة الشمس، هذا ما نلاحظه في القاهرة المعروفة الآن بالخديوية، أو وسط البلد، حيث تتفرع الشوارع من ميادين سليمان باشا ومصطفي كامل والتحرير والعتبة، ميدان العتبة كان فاصلا بين القاهرتين، القديمة والحديثة، إنه عتبة الدخول إلي كل منهما، وبالنسبة لي، أمضيت نصف عمري اعيش في الجمالية، حتي منتصف الستينيات كان احساسي عند الانتقال إلي وسط البلد مغايرا تماما، كأني انتقلت إلي اوروبا، يبدأ ذلك من ميدان الاوبرا، ومبناها الجميل الذي صمم علي هيئة اوبرا ميلانو بمناسبة افتتاح قناة السويس، وقد حضرت عروضاً في اوبرا ميلانو، وأقول بثقة ودراية ان المبني القاهري يعتبر أرق واجمل، كان البناء من الخشب  المعروف »‬بالبغدادلي» المطلي بالجبس، والقاعة أرق، وتوجد قاعة خاصة للعروض الموسيقية في قصر عابدين تكاد تكون نسخة مصغرة من مبني الاوبرا الذي أحترق مع تولي السادات السلطة واحكام قبضته عليها بعد انقلاب مايو  عام ١٩٧١، كان حريقا رمزيا لبدء اسوأ مراحل مصر التي أسست للوضع الكارثي الذي وصلنا إليه الآن، ورغم مرور ما يقارب النصف قرن فلا نعرف حتي الآن من أحرق الاوبرا وقصر الجوهرة بالقلعة، أقول إن إحساسي بالروح الاوروبية في وسط المدينة حتي منتصف الستينيات كان أقوي من أحساسي بالمدن الاوروبية الكبري التي عرفتها، وربما يكمن التشابه والتخطيط للقاهرة الخديوية بحبي لباريس وانتفاء الشعور بالغربة فيها، السبب في تقديري يرجع إلي العمارة والتخطيط، في باريس أسمي مناطقها التي أفضل الاقامة بها اسماء مصرية، الحي اللاتيني اسميه سيدنا الحسين، وحديقة اللوكسمبورج اسميها »‬الاورمان» وميدان الاوبرا هو الاوبرا، وان كنت افضل الاوبرا المصرية التي اصبحت خبراً ضائعاً في التاريخ، ولفجاجة الحكام وجهلهم لم يقيموا اوبرا، بل جراج سيارات، أعود إلي دراسة خالد فهمي الفريدة التي يستعرض فيها حالة الشم في المدينة، يصف الجهود الخديوية التي تركزت علي القاهرة الحديثة، مد المرافق الصحية، واضاءتها بالغاز، والحرص علي نظافة الشوارع، يقول خالد ان التعليم الذي اسسه كلود بك في قصر العيني كان علي أسس حديثة جدا، ولكنه كان يؤمن بانتشار الامراض عن طريق الأبخرة العفنة التي حاول علي باشا مبارك تحسين الاحوال المؤدية إليها بمد مرافق الصرف الصحي إلي القاهرة الفاطمية، يشير خالد إلي حرص كلود بك وإلحاحه علي الوالي محمد علي باشا بتدريس الطب باللغة العربية، كان يري ان ذلك سيمكن الأطباء من مقاومة المرض والتعامل مع المرضي بشكل أكفأ، الغريب أن من يقاوم تعريب الطب في العصر الحديث، الآن، هم الاطباء المصريون، من اجمل الدراسات التي قرأتها عن المدن، دراسة لاستاذ فرنسي عن مدينة فاس المغربية اسمه روجي لوطورنو، ويتناول فيها شتي عناصر الحياة حتي اصوات المدينة، خالد فهمي يضيف بمنهجه الفريد، الجميل، عيناً جديدة نري ونفهم من خلالها واقعنا الاجتماعي والعمراني. الأشجار  السبت : الاستاذة الدكتورة ثريا عبدالعزيز شرف، أهدت إلي قصيدة انجليزية للشاعر جوي كيلنر ١٨٨٦-١٩١٨، ترجمتها خصيصا كهدية رقيقة إلي الحكايات الهائمة التي تنشر في اخبار اليوم كل سبت، وتتضمن حكايات عن الاشجار، نص القصيدة المترجمة التي تعتبر ترجمة دقيقة للأصل الانجليزي والتي تفضلت الاستاذة الرقيقة بترجمتها : الأشجار  أظن أنني ابدا لن أري.. قصيدة في مثال جمال الشجرة شجرة تضغط علي الأرض بفمها الجائع لترتوي من ثديها المتدفق اليافع شجرة ناظرة إلي الله طوال الأيام كي تصلي رافعة أذرعها المورقة علي الدوام شجرة قد ترتدي -صيفا- عشا للعصافير ما بين خصلات شعرها الغزير تلك التي تستلقي التلوج علي صدرها وفي حميمية تعيش مع الأمطار حياتها القصائد يصنعها من هم مثلي من الحمقي ولكن.. لا يقدر سوي الله أن يبدع شجرة