فيما يلي الجزء الثاني والأخير من المحاضرة التي ألقيتها في بلدية باريس، الحي الأول خلال مؤتمر التعددية الثقافية الذي كانت مصر فيه ضيفا للشرف، وكان من الضيوف البارزين فيه الصديق الشاعر سيد حجاب، والدكتور فتحي صالح، والدكتور أحمد يوسف، وفرقة سماع للانشاد الديني بقيادة انتصار عبدالفتاح، وأقيم معرضان خلال المؤتمر، الأول للفنان عمر النجدي، والآخر للصناعات اليدوية أعد من خلال صندوق التنمية الثقافية وبحضور المهندس محمد ابوسعدة مدير الصندوق، أعدت البرنامج المستشارة الثقافيةأمل الصبان، وحضر السفير المصري ايهاب بدوي جميع الانشطة، محاضرتي بمناسبة صدور كتاب، «أمصار» الذي شارك فيه خمسون عالما للمصريات من مختلف انحاء العالم، كتبت مقدمته التي تتضمن نفس الافكار الرئيسية في المحاضرة حول استمرارية الثقافة المصرية العميقة القديمة رغم تغير المعتقد واللغة، وكتبت الدكتورة فايزة هيكل خاتمة الكتاب الذي صدر عن دار روبيرت لافون وهي من كبريات دور النشر الفرنسية.
>>>>
ذات صباح باكر كنت متجها إلي دار «أخبار اليوم» من خلال شارع فؤاد بمنطقة بولاق، من شارع جانبي خرجت مجموعة من النساء تتوسطهن شابة وجهها ملطخ بالنيلة، علامة الحزن الشديد عند المصريين القدماء. كانت تتمايل رافعة ذراعيها، واضح أنها محور المصيبة، ربما كان المتوفي زوجها أو شقيقها، ان اختفاء من يعول الأسرة في مصر كارثة حقيقية، وفي الاغلب الاعم تحل المرأة محل الرجل في المسئولية، وفي صعيد مصر وفي المناطق الشعبية تحاط الارملة باحترام كبير من المجتمع، وكثيرات يرفضن الزواج بعد وفاة رجالهن وينزلن إلي الاسواق للتجارة، او لكسب الرزق، وكانت جدتي لأمي مثالا علي ذلك، كانت نحيلة، فارهة الطول، جميلة الملامح، أصبحت ارملة وهي في العشرين، كانت اما لفتي «خالي» ولفتاة «امي»، قررت التفرغ لتربيتهما وكانت تخرج إلي السوق لتبيع الحبوب، واعتذرت لكل من تقدم اليها طالبا الزواج منها، عند حد معين يعتبر المجتمع ان هذه السيدة أوقفت حياتها علي تربية ابنائها، تصبح ذات هيبة، محرمة.
مازلت اذكر الشابة بين النساء الاخريات، كانت حركة جسدها تشبه الرقص، ذراعاها يلوحان إلي أعلي، رأسها يتمايل، صويحباتها يحطنها منعا لها من سقوطها فوق الأرض،حركتها الراقصة حزنا -وليس فرحا- ذكرتني بلوحة شهيرة في مقبرة راموزا بالبر الغربي من طيبة، أحد اشهر أماكن الزيارة في الاقصر حيث مقابر النبلاء، كان راموزا وزيرا لاخناتون، وفي مقبرته لوحة شهيرة للنساء النائحات وهن يودعن الميت بعد تحنيطه بحركة الايدي والرقص باجسادهن، تماما كما رأيتهن في ذلك الصباح بمنطقة بولاق الشعبية.
الصراخ حزنا علي الميت هو في نفس الوقت احتجاج علي الموت، علي ذلك الذي لاراد له ولامانع، انه تأكيد علي قيمة الحياة وليس استسلاما للفناء، كان آخرطقس يقوم به الكهنة بعد تحنيط الميت، قبل مواراته القبر، يفتحون فمه بآلة خاصة، ويصيح الكاهن الاكبر في وجهه: «انهض.. انك لست بميت»
في فيلم «المومياء» للفنان الراحل شادي عبدالسلام، مشهد جري في الواقع خلال القرن التاسع عشر بعد اكتشاف الخبيئة الملكية والتي كانت تضم مومياوات ملوك مصر المعروضة في المتحف المصري الآن، اثناء نقل التوابيت من المقبرة التي تقع خلف الدير البحري في ركب مهيب تحرسه الشرطة، خرج النساء من بيوتهن ورحن يبكين بصوت عال ملوحات بنفس حركات الايدي التي رأيتها ذلك الصباح في بولاق، وفي تلك الجدارية البديعة بمقبرة راموزا.
عندما توفي والدي، أقدم أحد اقاربنا المعمرين علي الميل في أذنه وتلقينه بما يجب أن يقوله من آيات القرآن الكريم اذا ما واجه المخاطر المتوقعة في الطريق إلي الابدية، كان يقول له: «لاتخف.. ان عملك الصالح معك».
نفس الكلمات التي وردت في كتاب «الخروج إلي النهار» والذي اطلق عليه البعض خطأ اسم «كتاب الموتي».
ان مفهوم المصريين للموت مازال في جوهره مصريا، قديما، مازالت الطقوس المصاحبة له تتضمن احتجاجا انسانيا في مواجهة القهر الكوني، الحزن العميق، الصراخ رغم الايمان القوي بوجود حياة أخري، والمضي إلي يوم يكون فيه بعث وحساب، ومضي إلي الجنة بالنسبة للصالحين وإلي الجحيم بالنسبة للمخطئين، انه نفس التصور المصري القديم، سنجده في المسيحية والاسلام.
للموت حرمة وقداسة في حياة المصريين، وعند وقوعه يجب تقديم العزاء وفي الريف يقدم الجيران الطعام لاهل الميت، تخرج من كل بيت في القرية صينية عليها اطباق الطعام، فهناك أغراب يجيئون من مسافات بعيدة لتقديم واجب العزاء، يمكن التسامح في مشاركة الافراح سواء كانت متعلقة بزواج او ختان أو عودة من الحج إلي الاراضي المقدسة، لكن واجب العزاء لاتهاون فيه.
>>>>
مما نشأت عليه احترام الخبز وتقديسه، يطلق المصريون علي الخبز «العيش» أي الحياة، وفي حدود ما أعلم هو الشعب الوحيد الذي يعتبر رغيف الخبز حياة في حد ذاتها، معادل لها ورمز، كان الوالد يلقنني احترام الخبز، اذا وجدت قطعة منه في الطريق عرضة لأن تدوسها الأقدام، لابد من تناولها وتقبيلها ثم وضعها بجوار الجدار بعيدا عن مسار الأقدام، اذا أرادالمصري أن يقسم مؤكدا الاعتزاز بالصحبة فيقول «وحياة العيش والملح»، واذا اراد أن يشيرالي عمله يقول «انا باجري علي عيشي»، الخبز عند المصريين قرين الحياة منذ العصور القديمة حتي الآن.
في احدي المقابر رأيت رسما جدارياللاله اوزير في وضعه الموميائي، مدفونا تحت الأرض، ومن جسده تخرج سنابل القمح، أقوي تعبير رأيته عن فكرة وحدة الوجود التي تعتبر محورا رئيسيا في الفكر المصري القديم، هذاما لم يستطع الاجانب أو الرحالة الذين زاروا مصر في العصور القديمة أن يستوعبوه، خاصة عندما شاهدوا المتاح في الظاهر فقط، تماثيل الرموز، جسم بشري ورأس حيوان، لم يفهم هيروديت المعني العميق الكامن وراء هذه الرموز التي تشيرالي معني اعمق، إلي وحدة الوجود، إلي الاصل الواحد لكافة العناصر في الوجود.
سنابل القمح تنبت من جسد اوزير، لذلك كان الخبز رمزا لجسد الاله، ولذلك كان تناوله رمزا للاتحاد بالاله، والتجدد، هذا ما انتقل إلي المسيحية في طقس التناول، من هذه الجدارية أكاد اسمع السيد المسيح يقول «أطعمتكم جسدي»، عندما يقوم المصريون بزيارة موتاهم فإنما يصحبونه معهم ويوزعونه علي ارواح الموتي، الخبز، سواء كان في صورته العادية او مخبوزا كفطائر.
>>>>
من العناصر الثقافية التي حفظت الخصوصية المصرية خلال ثنائية الاستمرارية والانقطاع، ظاهرة الموالد سواء كانت اسلامية او مسيحية او يهودية، المولد احتفال شعبي بذكري ميلاد قديس معين، ربما يكون معروفا، وربما يكون وجوده رمزيا، لكل مكان قديس، وهذا القديس يمثل نوعا من الحماية للقرية او المدينة أو المقاطعة، ومن خلال ملاحظاتي واهتمامي بظاهرة الموالد سواء بالمعاينة او البحث، لاحظت وجود مايشبه النظام الدقيق للقديسين سواء في العصور المصرية القديمة، او بعد اعتناق مصر للمسيحية، ثم الاسلام، هذا النظام يوازي النظام السياسي للدولة، علي سبيل المثال، اذا نظرنا لخريطة القديسين المسلمين فسنجد التراتبية التالية.
في القاهرة حيث العاصمة الرئيسية، المركز، سنجد ضريح سيدنا الحسين وهو حفيد النبي محمد، وقد استشهد في معركة غير متكافئة من أجل مبدأاقرار الخلافة في سلالة الرسول، وكانت معركة كربلاء ذروة الخلاف الذي قسم المسلمين إلي سنة وشيعة، عندما اعتنق المصريون الاسلام في القرن السابع، اكتسب خصوصية مصرية، وهذا ما حدث من قبل عند اعتناق المسيحية، استغرق ذلك وقتا ليس بالهين حتي يتم التوافق بين المعتقد الجديد والموروث القديم، سيدنا الحسين استشهد من أجل مبدأ، احتل في قلوب المصريين مكانة السيد المسيح الذي افتدي البشرية، والسيد المسيح اتخذ مكانة اوزير الذي استشهد في معركته ضد رمز الشر ست، ورغم انه اصبح سيد العالم الآخر، الا انه رمز التجدد واستمرارية الحياة، وزوجته ايزيس التي حملت منه بعد وفاته، انجبت ابنها حورس بعد مصرع ابيه، ولادة تذكرنا بحمل العذراء وميلادها، في القاهرة ضريح سيدنا الحسين الذي يوجد فيه الرأس المقطوع في كربلاء، وقد تم احضاره في القرن الحادي عشر الميلادي من عسقلان في الشام، اصبح الضريح مركز مصر الروحي، واكثر الاماكن قداسة، لنلاحظ هنا أن اكثر اماكن القداسة في مصر القديمة كانت مدينة ابيدوس حيث المكان الذي دفنت ايزيس فيه رأس زوجها وهي تقيم الشواهد الرمزية في كل مكان تعثر فيه علي قطعة من جسد زوجها الذي توزع علي اقاليم مصرالاثنين والاربعين. جسد اوزير هو أرض مصر، ارض مصر التي تحددت بصرامة، وكان من اوائل مسئوليات الفرعون الحفاظ علي الحدود.
رأس اوزير في اكثر أماكن مصر قداسة، ابيدوس، وقد وصل الينا المعبد المخصص له بمعجزة شبه كامل.
رأس الحسين في القاهرة، اصبح الآن المركز، ذروة النظام الذي يتوزع فيه القديسون علي مقاطعات مصر.
في العصر القديم كانت مصر تتكون من دولتين، مصر العليا «الصعيد» ومصر السفلي «الوجه البحري»، إلي ان وحد بينهما الملك مينا في الاسرة الاولي.
المركز الروحي الآن للوجه البحري مدينة طنطا، حيث يرقد السيد احمد البدوي الفاسي «قدم من المغرب».
المركز الروحي للوجه القبلي الآن، محافظة قنا، حيث يرقد السيد عبدالرحيم القنائي السبتي «قدم من المغرب ايضا». ويبدو أن القدوم من بعيد شرط للقداسة في العصر الاسلامي.
لكل محافظة قديسها الرئيسي، وكذلك لكل مدينة، وكل قرية، فإذا لم يعرف شخص القديس واسمه، سواء كان قبطيا أو مسلما، سنجد ضريحا يطلق عليه «سيدي الاربعين»، ربما يكون مرقدا لأحد الصالحين، وربما يكون خاليا، في مصر عشرات، بل مئات المراقد التي يطلق عليها سيدي الاربعين، ورقم الاربعين له خصوصية مصرية قديمة، ويرتبط بمقاطعات مصر، او الايام التي تستغرقها عملية تحنيط الجسد أو تحلله كما يعتقد الناس الآن، وفي اليوم الاربعين لرحيل الانسان لابد من احياء ذكراه، المولد ظاهرة اجتماعية، ثقافية، فيه الورع، وفيه الاحتفال بالحياة بكل مظاهرها، وكما ذكرت فإن خريطة الموالد في مصر المرتبطة بحضور القديسين توازي الخريطة السياسية والادارية للدولة، بدءا من المركز «العاصمة» ومضيا مع فروعه، تتشابه الموالد سواء كانت قبطية او اسلامية، يتضمن كل منها سوقا لتداول البضائع، وأدوات تسلية للفقراء، وفرصة للخروج عن العادي والمألوف، من اكثر الموالد المثيرة للتأمل، والمؤكدة لفكرة الاستمرار رغم الانقطاع، مولد سيدي ابوالحجاج الاقصري في المدينة التي كانت عاصمة الامبراطورية المصرية بعد طرد الهكسوس، طيبة او كما تعرف الآن، الاقصر. لايوجد مكان يعبر عن رمزية ومضمون مصر مثل معبد الاقصر الذي بناه رمسيس الثاني، وتوجد به كنيسة بنيت في عصر الاحتلال الروماني، ومسجد المتصوف، القديس المسلم، سيدي ابوالحجاج الاقصري، وأبرز ظاهرة تميز هذا المولد، ما يعرف بالدورة، وخلالها يحمل الناس القوارب فوق اكتافهم ويطوفون بها في المسجد المبني فوق المعبد، ثم المدينة، القارب رمز مصري قديم خالص للعبور، لعبور الانسان من الحياة إلي الابدية، لعبور الشمس السماء، للعبور من ساعة إلي أخري في العالم الآخر، القارب رمز من البيئة، انه الوسيلة الوحيدة ،لعبور النهر، السؤال الذي حيرني كثيرا، لماذا لم يشيد المصريون القدماء جسورا فوق النيل؟، هل عجز اولئك الذين بنوا الاهرامات عن بناء جسر يصل الضفتين؟، ربما كان تقديس النهر سبباً لعدم البناء فوقه، غير أنني لم أعرف رمزا أقوي من قارب الشمس الخاص بالملك خوفو والذي اكتشف في خمسينيات القرن الماضي، توحي مقدمته القوية التصميم بالرحيل، بالاقلاع، بالحركة التي تعتبر شرطا لاستمرارية الحياة. مازال المصريون يحملون القوارب ويطوفون بها في معبد الأقصر، وماتزال الموالد تقام رغم تزايد حضور المذهب الوهابي المتشدد الذي ظهر في صحراء نجد في القرن التاسع عشر واصبح المذهب السائد في المملكة العربية السعودية وتأثر به عدد من المصريين الذين ذهبوا للعمل في المملكة وربطوا بين مارأوه من ثروة طارئة بسبب البترول وبين تفاصيل هذا المذهب الذي يحول الدين إلي مظاهر متشددة، الظاهرة الجديدة علي المصريين خلال نصف القرن الاخير، هل الهجرة المتزايدة نتيجة تزايد عدد السكان، والخلل الاجتماعي الذي بدأ منذ السبعينات في القرن الماضي، ما مدي تأثير ذلك علي المضمون الثقافي العميق لمصر؟، ما تأثير الافكار الدينية المتشددة المنطلقة من الاديان الثلاثة التي توصف بأنها سماوية بمايعني إلحاد مصر القديمة او وثنيتها، وهذا مناقض للحقيقة، لقد انطلق هذا المفهوم من التوراة المعادية للمضمون المصري القديم. رغم ان النبي موسي تربي في مصر وتعلم فيها وكفله الفرعون الذي اصبحت صورته في التوراة رمزا للطغيان والعسف، وانتقل ذلك العداء إلي الكتب المقدسة الأخري، وفي السنوات الأخيرة ومع ظهور المتون المصرية القديمة وأهمها «متون الاهرام» و«الخروج إلي النهار»، يمكن أن نجد الاصول التي انطلقت منها التجربة الروحية والمغامرة الفكرية الكبري التي تكونت في مصر وانطلقت منها وانتهت إلي الديانات الثلاث، لقد اكتشف المصريون ان هذا الوجود ليس عبثيا، وانه يدار وفقا لقوانين، وتحركه قوي خفية، لذلك كان اسم الاله الاعظم امون أي الخفي، لم تكن مصر وثنية،رموز الديانة المصرية ليست الا وسائل لتجاوز المرئي إلي اللامرئي.
ما قرأته من دراسات في علم المصريات خلال السنوات الاخيرة، خاصة العلماء الفرنسيين، وبعض العلماء الالمان، تؤكد أن رد الاعتبار إلي ايمانية مصر القديمة يتعمق ويتأكد من خلال علم الآثار، الاكتشافات الجديدة، والتعرف علي النصوص القديمة، خاصة الديني منها، هذا الانصاف يتعمق لدي الخاصة، العلماء اهل الاختصاص، واملي ان يمتد ذلك إلي ورثة هذه الحضارة فيلتقي الوعي بالمضمون القديم بما يمارسونه يوميا من سلوكيات تجسد المضمون القديم، ورؤية الاجداد إلي الكون، آمل اكتمال ذلك وألا نكتفي بجعل هذا الميراث الانساني موضوعا للفرجة السريعة، ان استيعاب هذه الحقائق سوف يساعد علي تصحيح افدح اخطاء التاريخ، سوء الفهم المتعمد الذي احاط واستهدف اعظم تجربة روحية انسانية تشكل خلالها فجر ضمير البشرية، لن يتحقق ذلك إلا من خلال العلم واكتشاف حقائق التاريخ، والمعاينة الدقيقة لحياة المصريين ورؤيتهم، فمصر ماتزال في جوهرها فرعونية