استوقفني حديثٌ قرآنيٌّ عجيبٌ عن قرية من القري أراد الله تعالي لها الأمان، وألقاه علي أهلها، وأمنَّهم في أنفسهم وطرقهم، وأشاع الأمان بينهم حتي إن الواحد منهم ليسير الأيام والليالي لا يخشي علي نفسه ولا يخاف، لكن بعض أهلها ظلموا أنفسهم، وسعوا في تنغيص ذلك الأمان، وضل تفكيرهم وتورطوا في مفاهيم مغلوطة ظالمة، جعلتهم يدبرون ويخططون ويتمنون أن يرتفع ذلك الأمان، فاصطدموا بحاجز إلهي لا ينكسر، وارتطموا بسياج قاهر من الحفظ والأمان الإلهي الذي لا يزول ولا يرتفع، فماذا كانت النتيجة، كانت النتيجة أن الله مزقهم هم، وجعلهم أحاديث وذكريات، وأزالهم من الوجود، مما يدل علي وجود قانون كوني وسنة إلهية، لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير، ألا وهي أن من سعي في تنغيص بلاد أمنها الله مزقه الله هو، وأزاله هو، وأبقي تلك البلاد آمنة، وقد وصف الله تعالي لنا هذا المشهد في قوله جل جلاله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَي الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًي ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور)، وقد ذكرني هذا بحالة مصر، وقد أسبغ الله عليها الأمان، وخصصها بأن ذكرها في هذا السياق باسمها الكريم الصريح، علي لسان نبي كريم لا يتكلم إلا بالوحي، وهو سيدنا يوسف، حينما قال: (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَي يُوسُفَ آوَي إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ)، وسبب ذلك فيما أعلمه أن يعقوب عليه السلام نبي كريم، وقد جاء بأسرته إلي مصر، قاصدا بها اجتماع الشمل بابنه نبي اله يوسف، فأجري الله علي لسان سيدنا يوسف بالوحي الشريف تلك المنحة الإلهية، وهي الأمان لمن دخلها يريد بها كل خير وأمان واستقرار، ثم إن سيدنا يوسف الحكيم عليه السلام، وهو النبي الذي أوتي الحكمة، كم جري علي لسانه الشريف من درر الحكمة وينابيع البصيرة، ولكن الله تعالي أبقي لنا نحن في القرآن الكريم من كلامه الكثير المنير، ومن حكمه الكثيرة السديدة، تلك الجملة بخصوصها، بحيث تحولت من كلمة نطق بها سيدنا يوسف وحيا وإلهاما في زمن بعيد، وصارت جملة قرآنية خالدة، باقية علي وجه الزمان إلي يوم القيامة، فإذا خرج اليوم منحرف يدبر لمصر شرا وضررا، ولا غرض له إلا أن ينخرط أهلها في نزاع واضطراب وتقاتل حتي تشتفي نفسه هو، ولا يبالي بعدها بما يمكن أن يصيب هذا الوطن العظيم من ضرر، بل يصرحون أحيانا بأنهم يتمنون لمصر كل شر ودمار لأنها اختارت إسقاطهم ورفضت انحرافهم وحمقهم، حتي صاروا يذكرونني بذلك النموذج القديم الذي وصفه الله تعالي بقوله: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ)، وهم بذلك يصطدمون ويرتطمون بالسياج الرباني المنيع المهيب المذكور في قوله سبحانه: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ)، ولكنهم قوم ظالمون، فكانت النتيجة أن مزق الله تعالي شملهم، وبددهم، وقال فيهم: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)، أيها السادة الكرام، إن الله جل جلاله قد اختار لمصر الأمان، وجعل لها منزلة ومكانة، وحشد لها الأنبياء الكرام من إبراهيم ولوط، إلي يعقوب ويوسف، وموسي وهارون، وإدريس، والمسيح عيسي بن مريم، وأمه الصديقة مريم عليها وعليهم أتم الصلوات والتسليمات، وقام سيدنا يوسف عليه السلام علي تدبير خزائنها، وإدارة شئونها في وقت الأزمة، ودعي والده النبي الكريم إليها، وسهر الليالي والأيام والشهور والسنوات علي تشغيل أراضيها وفلاحيها بالزراعة وتخزين الأقوات وتقنين صرف الغلال، فما أكرم هذا البلد علي أنبياء الله، وكم شيدوا وعمروا فيه، ثم أطلقها سيدنا يوسف عليه السلام مدوية وباقية وخالدة: (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَي يُوسُفَ آوَي إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ)، فإذا جاء بعد ذلك كله من يكفر أهلها وشعبها، ويجعلهم أهل جاهلية، ويزعم أنهم ضد الدين، ثم يذهب ليخطط ويدبر لتهييج الناس فيها، وتشويهها، وإشعالها، ودفعها دفعا للتنازع والتطاحن، ويتمني لها من أعماقه الدمار والزلازل والهلاك، بدلا من أن يكون مفتاح أمان وسكينة لها، فهو شخص يرتطم بسياج جليل من الأمان أحاطها الله به، لن ينكسر أبدا، وربما نجح أولئك في إثارة القلاقل هنا أو هناك، أو تسببوا في ألم لها يقصر أو يطول، ولكن التاريخ سيجرفهم، ويمحوهم، وسوف يتحولون إلي أحاديث ترويها الأجيال عن إنسان جهول ارتطم بالأمان الذي منحه الله لمصر، فأزاله الله من الوجود وأبقي مصر عزيزة ومحفوظة، وهكذا شأن كل من اعتدي علي الأوطان العظيمة، وأراد إرغامها علي الانكسار أمام هواه، وتسلط علي أهلها يريد منهم الانجراف في أوهامه، وأغرق الناس علي مدي ثمانين سنة في فكر الحاكمية والجاهلية وحتمية الصدام والتمكين والاستعلاء إلي آخر تلك المنظومة المظلمة من الأوهام والمفاهيم، ثم لما أن صان الله العباد من جرأته علي الوحي، والاقتحام عليه لتقويله ما لم يقله، ذهب يدبر لمصر كل ضرر وشر، والله من ورائهم محيط، أيها الإنسان المصري العظيم، لابد لك من استعادة ذاكرتك، واسترداد ثقتك بذاتك ووطنك، وشحذ مواهبك وطاقتك النفسية للحفاظ علي هذا الوطن، واجتياز أزماته، وإدخال الأمان علي قلوب هذا الشعب، وبث الأمل والنور والحكمة في وجدانهم، وإدراك قيمة هذا الوطن العظيم ومقداره، وكيف نجح في اجتياز عشرات الأزمات الطاحنة والخانقة عبر تاريخه الطويل، حتي زالت تلك الأزمات جميعا، وبقي الوطن، وسيبقي علي أيدينا بإذن الله حتي نسلمه للأجيال القادمة مرفوع الرأس عزيزا، وأهله كرام أعزاء، والله عليم بما في القلوب، وسلام علي الصادقي