العدل ليس محصورًا داخل قاعات المحاكم، وعلي منصات القضاء فقط، لأنه الميزان الذي يوزن به المسلم كل تصرفاته، فالإسلام ينهي عن الظلم والجور علي حقوق الآخرين، ولا يغبط حق أحد كان، لا يبخس الناس أشياءهم، يحذر المسلمين من أن تعميهم الخصومة عن رؤية الحق فلا يحكمون بميزان العدل، ذلك هو الإنصاف الذي يلزمنا ديننا بأن نتحلي به، فنعطي كل ذي حق حقه، حتي لو كان عدونا «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَي أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي».
الإنصاف من سمات الحكماء، وهو أن تنظر للناس، خاصة لخصمك أو عدوك، نظرة إنصاف فتري خيره كما تري شره، وتري حسناته كما تري سيئاته وتري ايجابياته كما تري سيئاته، الأمر الذي بتنا نفتقده، فأصبحنا نتعامل مع الناس من منظور الحب والكراهية وغاب عنا الإنصاف، فهذا أحبه، لا أري منه إلا كل شيء حسن، وهذا أبغضه، لا أري فيه سوي عيوبه.. الإمام الشافعي يقول عن مثل هذا: وعين الرضا عن كل عيب كليلة.. وعين السخط تبدي المساويا.
علي الرغم من الحرب التي خاضوها ضد الروم والبيزنطيين، إلا أن ذلك لم يمنع المسلمين أن يترجموا أمهات الفكر اليوناني، ولم يترددوا في منح «أرسطو» لقب «المعلم الأول»، واكتفوا بتلقيب الفارابي «المسلم» بالمعلم الثاني.. هذا قمة الإنصاف العلمي «ولاتَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ»..
وهذا ما دفع الإمام محمد عبده إلي القول بعد أن زار أوروبا: «وجدت في أوروبا مسلمين بلا إسلام ووجدت في بلدي إسلامًا بلا مسلمين»، فلم يمنعه إسلامه أن يعترف بإيجابيات الآخر المختلف معه دينيًا، وأن يعبر في المقابل عن رفضه لسلوك المسلمين وقتذاك، حيث كانت هناك حالة من التردي والتخلف في بلاد المسلمين.
القرآن وصف من كذبوه من اليهود والنصاري «لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ»، «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ»، «وَمِنْ قَوْمِ موسي أمه يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»، هو يريد أن يقول لنا: لا للتعميم.. فالتعميم يعمي العقول عن الإنصاف.
الإنصاف هو الذي جعل علماء ومفكرين غربيين غير مسلمين ينتصرون للإسلام، مثلما فعل سير توماس ارنولد (1864-1930) في كتاب «الدعوة إلي الإسلام»، إذ يقول: «فبعد تدهور الكنيسة الإغريقية نشأ استبداد في الأمور الدينية جعل الحياة العقلية ترزح تحت القرار الحاكم الذي حرم كل مناقشة في شئون الأخلاق والدين. ولكننا لم نسمع في ظل الإسلام عن أي محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين علي قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي».
نبينا صلي الله عليه وسلم كان يدعو قبل إسلام عمر بن الخطاب، قائلاً: «اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك»، وكان يقصد «عمر بن الخطاب»، و»عمرو بن هشام» (أبوجهل)، فلم يمنعه إيذاؤهما الشديد له وللمسلمين أن يري حسناتهما، وأن يدعو الله أن يعز الإسلام بأحدهما.
الإنصاف هو الذي جعل النبي يعفو عن الصحابي حاطب بن بلتعة، بعد أن أرسل كتابًا إلي قريش، يخبرهم بأن محمدًا سيغزوهم، وهي جريمة خيانة عظمي لاجدال يستحق مرتكبها عقوبة القتل، وعندما استدعاه النبي ليسأله: ما هذا يا حاطب؟ قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي: لا يا عمر، إنه شهد بدرًا.
ولما رأي النبي من بين الأسري صهره، العاص بن الربيع، زوج زينب وقع أسيرًا، بعد أن أصر علي كفره وحارب المسلمين يوم بدر، فلما نظر إليه قال: والله ما ذممناه صهرًا.. يعني أنه لا غبار عليه كزوج لابنته.. هذا هو خلق نبي الإسلام لم يمنعه قتال زوج ابنته له أن يقول فيه شهادة حق.
عندما حاصر أحد ولاة بني العباس جبل لبنان وأجلي من سكنوا فيه من النصاري غلاً من النصاري، كان الأمام «الأوزاعي» أول من تصدي له، بعد أن قاد مظاهرة ضمت مسلمين ومسيحيين حتي عادوا لمساكنهم.. لم يفعل ذلك إلا لكونه منصفًا يرفض الظلم الذي وقع علي غير أتباع دينه.
وزير خارجية فنلندا «آركي توامي أويا» في حديث له مع الصحافة الفنلندية انتقد التحامل علي الإسلام، قائلاً: «عندما نسخر من السود نتهم بالعنصرية، وعندما نسخر من اليهود نتهم بمعاداة السامية، وعندما نسخر من النساء نتهم بالشوفينية. أما عندما نسخر من الإسلام فهي حرية تعبير».. وهذا من خلق الإنصاف، الذي علمنا الإسلام إياه، وقد تجاوبت الحكومة الفنلندية مع كلامه، وأنشأت إذاعة يكون كل اختصاصها هو نشر قيم الإسلام الإنسانية من أجل أن يستمع لها المسلمون في الدولة.
الإنصاف ثلث الإيمان.. ورد في البخاري: «ثلاثٌ من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق في سبيل الله»، ولن يكون الإنسان منصفًا لنفسه إلا عندما يشهد للآخرين بما هم أهل له.
ويبقي السؤال كيف تكون منصفًا؟
تذكر دائمًا الأشياء الإيجابية للأشخاص الذين لا تحبهم، اذكر بوضوح أمام الناس بعض الأشياء الإيجابية للأشخاص الذين لا تحبهم، اصمت 5 ثوانٍ قبل ذكر مساوئ أي إنسان، كن صبورًا ولا تتسرع بالحكم علي الناس، استمع لآراء الآخرين ووجهات نظرهم، ضع نفسك مكان الناس دائمًا، نوع قراءاتك ليتسع أفقك للجميع.