هزني الخبر هزة لم تصادفها حياتي، رغم المحن الكثيرة التي مرت بي... هزة حرت كثيرا في تفسير معناها... طوال الطريق من منزلي الي سرادق العزاء بمسجد آل رشدان، جل تفكيري متجه نحو معني الموت، ذاك الضيف الذي لن يفلت من زيارته احد... اينما نسير يحف بنا ،ان مررت علي بستان ازهار، تقع عيناك علي زهرة ذابلة أوراقها مصفرة، تكاد تسقط من نسمة هواء وان قلت... تراه ان مررت علي اثر من بناية لها عندك ذكريات، وقد تهدمت وزال عنها رونقها ،وكأنها تودع الحياة لترحل ، إما الي قصر منيف أو تظل حطاما وركاما.  بلغني خبر رحيل العقيد كريم سيف الدين، الابن الوحيد للزميلين الفنانة رجاء حسين و سيف الدين عبد الرحمن، ومازلت بقلب مكلوم أعيش لحظات الحزن الشديد بعد رحيل شقيقتي توأم حياتي... تزاحمت الذكريات الي رأسي استعيذ بالله منها مرة، واتلو ما تيسر لي من القرآن الكريم مرات... الدموع في مقلتي، لا هي تريد ان تنسكب ولا هي تريد ان تكف ...كان العقيد رحمة الله عليه، صديقي الكبير رغم صغر سنه... هو في الخامسة طفلا وانا تخطيت الاربعين... كنت اعود من عملي بالمسرح متأخرا،اول ما افاجأ بهم يقولون ، كريم طلبك في التليفون عشرات المرات... كنا نتبادل الحديث الطفولي كطبيب نفسي ،يرفع عن كاهلي تعب العمل وشقائه ،بطفولته الربانية...قضي في الطريق إلي أمه، من كان مثله بارا بوالديه، لابد ان يرحل عنا ...قضي يوم الجمعه، يوم له في القرآن سورة، وايام عشر من ذي الحجة ، لهم عند الله منزلة... فهنيئا له هذا الاكرام الالهي ،ان يرحل عنا شهيدا. اعتب علي الايام ان جعلتني اعيش لاشهد هذا اليوم وصلت الي سرادق العزاء محسورا مكسورا... اعتب علي الايام ان جعلتني اعيش لاشهد هذا اليوم... اعتب علي الموت الذي زارصديقي، الذي لم تزل الذاكرة عندي تحمل صورته طفلا... دخلت قاعة العزاء وانا محمل بالافكار والاحزان، لأجد مقاعدها كلها مشغولة بالمعزين علي كبر قاعة المناسبات... شاهدت مصر العظيمة بعواطفها الجياشة ،بحنوها التاريخي، كأن مصرهي السرادق، تحتضن بدفئها كل المعزين... لحظات قليلة من التأمل، رأيت جيش مصر العظيم بحق ،الكل بملبسهم العسكري، برتبهم صغرت ام كبرت، من أول الجندي البسيط، انتهاء باللواء... كجبهة قتال كل في موقعه يؤدي واجبه، فيهم من يرتدي غطاء رأس المدفعية، ومن علي رأسه غطاء الطيران، وذاك سلاح الاشارة او المشاة... اغطية رأس حمراء وخضراء وسوداء وزرقاء.  لم استطع ان اكبح جماح مشاعري التي تبدلت من الاحزان وثقلها الي شعور بالفخار... فخار يحمل معاني كثيرة، علي رأس تلك المعاني،شاهدت مصر، سيدة يافعة كتمثال نهضة مصر للفنان العالمي محمود مختار... تضع فوق رأسها الهلال والنجوم، كما يراها الرسامون وبثوبها الأخضر الزاهي.  رغم الاحزان التي تنوء بحملها نفسي،عشت لحظات الفخار،وفاء وترابط ورجولة جيش مصر،ليسوا ابناء دفعة واحدة، ولا زملاء سلاح ، ومع هذا كل يشبه الآخر،لافرق بين ملازم اوعقيد او لواء، رغم اختلاف السن بينهم، شاهدتهم جميعا كتوأم متكامل... شخص واحد لا فرق... وفاء التربية العسكرية المصرية ،هو ما جمع بينهم...أهي أحاسيس عشقوها صغارا في كلياتهم العسكرية؟! ام هو الانضباط العسكري!!. إنتهت قناعتي لا بهذا ولا بذاك ولا تلك... انها التربية العسكرية المصرية الوطنية.  خرجوا جميعا من رحم ام واحدة، فطبعوا جميعا علي صفات الحب والوفاء والإخلاص... ليسوا جيشا او فرقة، أواتجاه وعقيدة واحدة ،انما أسرة مترابطة كل يعرف قدر صاحبه، وهو ما يميز جيش مصر الوطني ،عن باقي كل جيوش العالم... لاول مرة احضر عزاء  بطعم الوطنية..