قبل أن تظهر الإذاعة المصرية الحكومية للوجود عام 1934 كانت الإذاعات الخاصة هي التي تلعب الدور الرئيسي في مصر، ولأنها كانت تعتمد علي الإعلانات في تمويل نفسها فقد ابتذلت نفسها لأقصي درجة لتحقق أكبر قدر من الربح، ولم ينقذ الإذاعة من هذا الابتذال سوي تدخل الحكومة، وقيامها بإنشاء الإذاعة الرسمية وإلغاء كل ماعداها من إذاعات. والآن فتحنا الباب أمام القنوات التلفزيونية الخاصة فأعدنا التاريخ للخلف ليتكرر ماكان يحدث في الإذاعات الخاصة في بداية القرن العشرين. وصارت الإعلانات ألعن مما كانت عليه عند نشأة الإذاعة. ومن بين القنوات الخاصة قنوات يمكن أن نسميها قنوات »‬ بير السلم »، وهي قنوات ليس بها مذيعون، ولا برامج، ومقرها لايزيد عن شقة متواضعة تبث منها افلاماً حديثة، مسروقة غالباً. ولو دققنا في إعلانات هذه القنوات لوجدنا التالي : - إعلانات تعتمد علي الدجل والشعوذة، أذكر منها إعلاناً عن دار معينة تعالج السحر ومس الجن، وتزوج العوانس، وتعيد الزوجة المطلقة لزوجها. - إعلانات أخري ذات طبيعة جنسية، تتحدث عن الدواء العجيب للضعف الجنسي الذي يجعل الرجال يسوون الهوايل.. إنها إعلانات تدل بكل وضوح علي أننا لم نترك العصور الوسطي بعد. إعلانات تدل علي أننا أمة بلا عقل ومازلنا نؤمن بالجن والعفاريت، ونري أن الأطباء ليسوا وحدهم القادرين علي العلاج بل تنافسهم وتتفوق عليهم وصفات لاأحد يعلم عنها شيئاً من الناحية العلمية. وإذا تركنا قنوات بير السلم إلي القنوات الخاصة الأخري لوجدنا أشياء لاتقل عجباً : - إعلانات عن عالمة الفلك فلانة الفلانية، خبيرة النجوم والأبراج، وهي بالتأكيد لم تدرس الفلك أبداً دراسة علمية، بل لم تدخل من باب كلية العلوم أصلاً. - إعلانات عن تفسير الأحلام طبقاً للكتاب والسنة، وهذا كلام عجيب، فالقرآن كتاب للعبادة، والسنة تكمل الكتاب وتفصل مجمله، ولاعلاقة للاثنين بتفسير الأحلام. تفسير الأحلام كما تعلمناه جزء من علم النفس له قواعده وأصوله، فما الذي نقله من علم النفس للقرآن والسنة ؟ الإجابة ببساطة : إنها الرغبة في النصب علي خلق الله باسم الدين. - إعلانات تسيء لصورة الأسرة المصرية، ومنها مثلاً الإعلان الذي يروج لمشروع سكني في مدينة نصر، نري فيه الأب مرتديا ثياباً داخلية مخجلة، يخرج علي ولده الذي يجتمع بمرءوسيه ممسكاً بكيس زبالة، ثم يلقي بالكيس علي الأرض وهو يصيح في ابنه لكي يلم الزبالة. فهل هؤلاء هم الآباء المصريون ؟ - إعلان عن مشروع للمساكن المصيفية، نري الزوجة فيه تدفع زوجها بقدمها ليغرق في البحر كي تبقي في المصيف. هل يمكن أن نقدم مثل هذه الرسالة للجمهور باعتبارها إعلاناً يشجع علي شراء الوحدات المصيفية ؟ لا أريد أن أطيل الحديث عن هذه الإعلانات التي تجافي الذوق والقيم، وتتاجر بالدين، وتخدع الذين يعانون من الضعف الجنسي، وتروج للخرافات والدجل، لكني فقط أريد أن أخلص إلي نتيجة محددة، هي أن مايحدث في الإعلانات لابد أن يوضع له حد. لابد من فرض رقابة عليها لإيقاف هذا الهزل. وهذه الرقابة يمكن أن تكون حكومية تتبع المصنفات الفنية، ويمكن أن تكون غير حكومية، وتتبع نقابة المهن السينمائية، وتتكون من خبراء في الإعلام والصحة وعلم النفس وأحد الفقهاء، وغيرهم من المتخصصين طبقاً لموضوع الإعلان الذي ستتم مراجعته، وتكون هذه اللجنة مسئولة عن إجازة أي إعلان قبل إذاعته، ولا يسمح بإذاعة أي إعلان دون تصريح منها. إن الإعلانات جزء مهم مما تقدمه وسائل الإعلام، وهي تؤثر بلا شك علي القيم السائدة في المجتمع، وعلي العلاقات الاجتماعية، وعلي أطفالنا، لذلك يجب ألا نتركها لمزاج أصحاب شركات الإعلان أو المعلنين. وكفانا تسيباً حفاظاً علي قيم المجتمع.