في العلوم السياسية يفرق الباحثون بين مصطلحين يشكلان طرفي نقيض في كثير من الممارسات السياسية، ويلقيان بظلالهما علي كثير من النتائج.. المصطلح الأول هو »‬الدوجماطيقية»، والمصطلح الثاني هو »‬البرجماتية».. في الأولي الانتصار للفكرة مهما كان خطؤها.. العقيدة تأتي أولاً.. الولاء للمفهوم وإن خالف الواقع، والولاء للفكرة حتي وإن كان التطبيق العملي لها كارثياً.. وفي الثانية الواقع مقدم علي الفكرة، والنتائج مقدمة علي المفهوم.. نجاح أي فكرة تكمن في نتائجها.. ونجاح أي سياسة يتم الحكم عليها من خلال نتائجها الفعلية.. لا تقديس لفكرة أو لنظرية إلا في ضوء نتائجها، ولا قداسة لفكر لا يمكن الاستفادة منه لصالح المجتمع.. كثير من الحكومات، ممن يتبنون الفكرة الأولي، تأخذها العزة بالإثم، وعلي استعداد لفناء الجميع من أجل إنجاح الفكرة.. وكثير من الحكومات ممن يتبنون الفكرة الثانية تقع في شرك الانتهازية والنفعية.. وما بين الفكرتين، وما بين التوازن بين النقيضين يكون نجاح أي حكومة.. وخلال هذا الأسبوع، اتخذت الحكومة المصرية قراراً بإلغاء أو بتأجيل فرض الضرائب علي عائدات البورصة.. القرار حسم لغطاً دار في الأسابيع الماضية، وحسم جدلاً أشعل الأوساط الاقتصادية، وأعاد إلي البورصة المصرية قوتها، وهو ما انعكس في ارتفاع أسهم البورصة، وفي تحقيقها لعائدات هي الأعلي في تاريخها منذ سنوات.. الحكومة في اتخاذها هذا القرار كانت برجماتية إلي أبعد مدي.. ليست قرارات الحكومة »‬ديناً» سماوياً، أو نصوصاً مقدسة لا يجب الاقتراب منها.. هي أشياء قابلة للتعديل والتغيير في ضوء الواقع ومتطلباته.. لا يوجد في عالم السياسة أو في عالم الواقع محظورات دائمة أو مباح دائم.. كل شيء خاضع لمصلحة الوطن والمواطنين.. سياسات الحكومة ليست جزءاً من كرامتها.. الإنجاز ودلالات التحسن في الأداء هو كرامتها، وهو ما يجب أن تحرص عليه أي حكومة.. تشرشل كان علي استعداد للتحالف مع الشيطان من أجل بريطانيا.. ومحلب علي استعداد لتغيير أي سياسة أو قرار اتخذته الحكومة مادام فيه مصلحة الوطن.. كثير من القرارات الحكومية السابقة والحالية تحتاج إلي مراجعة وتعديل.. لا يدل هذا علي أي ضعف بالحكومة، أو أي مساس بكرامتها.. مادمنا نبتغي مصلحة الوطن، فلا شيء يهم.. خذ علي سبيل المثال، قرار الحكومة بوضع حد أقصي للأجور.. هذا القرار ظاهره الخير وباطنه العذاب.. ظاهره العدالة وباطنه الإجحاف.. هناك كفاءات لا يمكن تطبيق هذا القرار عليها.. في وضع حد أقصي لمرتبات هذه الكفاءات ظلم لها، وتفريغ للجهاز الحكومي من الطاقات المبدعة.. ليس كل الناس سواء في القدرات، وليس كل العاملين سواء في القدرة علي الخلق والإبداع، وإن تساووا في الدرجات الجامعية أو في عدد سنوات الخبرة.. لابد من وضع مقاييس أخري، ولابد من تمييز هذه الكفاءات وإعطائها حقها.. قرار الحكومة لابد من النظر فيه، ولابد من مراجعته، قبل أن يهجر دواوين الدولة ومراكزها المهمة كل أصحاب الخبرات والمواهب الحقيقية.. أقول هذا، وأعلم أن أي قرار حكومي يتم اتخاذه لابد أن يكون نابعاً من دراسة جدوي له، ودراسة متأنية لنتائجه السلبية قبل الإيجابية.. ولكننا نعلم أن حكوماتنا بصفة عامة تنقصها مراكز البحوث والدراسات التي تمدها بتقييمات الموقف، وبدراسات الجدوي الحقيقية التي تيسر لها السبل.. الحكومات في كل دول العالم لا تصنع السياسات وإنما تنفذها.. هناك مراكز بحثية مهمتها وضع البدائل وطرح السياسات، ومناقشة الصالح منها، والحكومات تختار من بينها.. للأسف هذا »‬ الأوبشن» غير متاح لدينا، ولذلك تقوم الحكومة بوضع السياسات وتقوم أيضاً بتنفيذها، وتقييمها.. وفي ضوء ذلك، فالمراجعة واجبة، والتعديل متاح، وكل شيء قابل للتعديل في ضوء نتائجه علي أرض الواقع..