احتمالان لا ثالث لهما، إما أن المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات يدعي بالباطل علي الشرفاء وإما أنه يريد تطبيق العدالة بحق المعتدين علي المال العام لكنه عجز لأن الفساد في مصر أصبح عصيا علي الإصلاح!!.
يعيش المصريون حالة فريدة تجاه رئيس أكبر جهاز رقابي في مصر وهو المركزي للمحاسبات، حيث إن رئيس هذا الجهاز ومنذ ثلاث سنوات مضت عليه في منصبه قد دأب علي التصريح بملء فيه أن يديه هو وموظفيه مغلولة عن القيام بمهام عملهم في مراقبة أجهزة حساسة بالدولة (دولة القانون لا تعرف مصطلح الحساسة) وبعض الوزارات المهمة، بل إن الرجل لم يكتف بذلك في تصريحاته بل ذهب إلي ماهو أكبر عندما أعلن في مؤتمر صحفي شهير أنه قدم بلاغات موثقة بالأدلة والبراهين تجاه تلك الأجهزة (سماها بالإسم) وتجاه أشخاص ذوي حيثية (سماهم بالإسم) إلي سيادة النائب العام (الشهيد هشام بركات) لكنها ظلت حبيسة الأدراج ولم يتم فتحها حتي الآن.
ربما تبتسم فور انتهائك من قراءة السطور السابقة وتري أن حل أزمة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات يكمن في كلمة واحدة وهي (التحقيق) في كل بلاغات هشام جنينة، فإذا ثبت صحتها، جري تطبيق القانون علي الفاسدين وهذا ما نادت به ثورتا يناير ويونيو (فاكرينهم) بل يطالب به أيضا رئيس الجمهورية، والاحتمال الثاني أن تنتهي التحقيقات إلي كيدية بلاغات رئيس المركزي للمحاسبات وعندها لن نغلب وسيلة في التشهير بالرجل بسبب ادعاءاته الكاذبة ضد شرفاء الوطن.
رغم أن الحل يبدو بسيطا وهو كذلك فعلا، إلا أنه حتي تلك اللحظة التي تقرأ فيها هذه السطور لم يتم التحقيق في بلاغات رئيس المركزي للمحاسبات بل فوجئنا بصدور قرار جمهوري يتيح للسيد رئيس الجمهورية الحق في إعفاء رؤساء الأجهزة الرقابية والمستقلة مما يعني أن كافة رؤساء الأجهزة الرقابية في مصر (من بينهم رئيس المركزي للمحاسبات) أصبحوا قابلين للعزل في أي وقت وفق عبارات مطاطة وفضفاضة وردت في القرار السابق. ثم كانت المفاجأة الصادمة عندما كشفت بعض الصحف أن مشروع القرار الجمهوري جاء نتيجة مطالبة حكومية لإصدار هذا القرار، وإذا كان من حق الحكومة إصدار مقترح بقانون فإن الرئيس غير مطالب بالاستجابة الفورية لهذا الضغط لأن الإلحاح الحكومي ربما يعبر عن صراع مكتوم بين سلطات الدولة بعضها ببعض أو عن مشاحنات وإحن بين بعض كبار المسئولين، لذا كان ينبغي علي مؤسسة الرئاسة أن تنأي بنفسها عن الدخول في هذه المنطقة.
أما وأن صدر القرار الجمهوري وأصبحنا أمام أمر واقع، فإن ذلك لا يمنع من إبداء ملاحظات علي هذا القانون الذي يتيح للرئيس حق إعفاء رؤساء أي أجهزة رقابية أو هيئات مستقلة:
1-بدا القرار بقانون كأنه صدر للتخلص من شخص (هشام جنينة) أو أشخاص بأعينهم (رؤساء بعض الهيئات المستقلة)، والأصل في القوانين أنها تصدر عامة غير مقيدة لغرض.
2-من حيث المواءمة السياسية فإن مثل هذه القوانين لا ينبغي صدورها في غيبة البرلمان وكان ينبغي انتظار مجلس النواب الجديد خلال شهور وهو صاحب الحق في إعفاء أي مسئول من سلطاته.
3-لا يخفي علي متابع الحالة المصرية أن دولاب الدولة الرسمي في قمته العليا لا يحمل القدر المطلوب من التناغم فلاتزال هناك جبهات تتصارع إما بحثا عن كسب ثقة الرئيس أو التخلص من خصومها أو تثبيت الأرض تحت أقدامها، بل إن وجود بعض رموز من فترة حكم مبارك في دوائر السلطة بات واقعا عاديا، ما سبق يستدعي من صانع القرار أن يتريث قبل التوقيع علي أي قرار.
4-الأجهزة الرقابية تتشابه بطبيعة تخصصها مع عمل الأجهزة القضائية، هكذا يراها العالم الذي نعيش فيه، وتقديري أن الإطاحة بالعزل لرئيس أي جهاز رقابي كبير قبل انتهاء مدته القانونية قد يساء فهمه في الخارج (والداخل أيضا) بوصفه تدخلا من السلطة التنفيذية في عمل الأجهزة الرقابية وصورة مصر في هذا المجال ليست جيدة، وتلك قصة أخري تستحق البحث والتحليل للوصول إلي حلول.
5- عزل رئيس جهاز رقابي وفق القانون الجديد دون التحقيق في أي بلاغ من بلاغاته المتعلق بالفساد يعطي انطباعا أن الفساد لايزال بعد ثورتين أكبر من القانون وأعلي من الدولة، ويقيني أن هذا لم يقصده الرئيس حين توقيعه علي هذا القرار بقانون، لذا لزم التنويه للجميع.