يمثل الكاتب العظيم أنيس منصور في دائرة الأدب والفلسفة والفن والثقافة قيمة عالية رفيعة لم يصل إليها أحد ممن سبقوه أو عاصروه أو ممن سيأتون بعده.
أما بالنسبة لي فإنه كان وسيبقي كاتبي المفضل الأول.. كان أول من قرأت له وأنا تلميذ في الابتدائية.. أول من اشتريت له كتابا من مصروفي الصغير وأنا مازلت تلميذا في الإعدادية.. أول من حضرت له محاضرة وأنا في الثانوية.. أول من كتبت له ما يشبه المقال نشره لي في بريد القراء.
كان أنيس منصور بالنسبة لي علامة خاصة في حياتي.. كنت أحلق معه في كل كلمة يكتبها.. كأنه يكتب من العالم الآخر.. وهو كان كذلك فعلا. أبحرت معه إلي كل الدنيا.. تنقلت معه إلي كل الثقافات والحضارات.. جلست معه إلي كل العظماء الذين لم أرهم في حياتي.
فرحت جدا.. والصديق العزيز الأديب الباحث الدكتور مجدي العفيفي يدخل إلي مكتبي حاملا أحدث إبداعاته الأدبية... كتاب عن أنيس منصور.. ما أروع العنوان : آخر 200 يوم في حياة أنيس منصور «.. وما أصدق الكاتب عندما تحدث عن الراحل العظيم الذي رافقه في الأيام الأخيرة من حياته.. وما أمتع ما قرأت علي صفحات الكتاب الذي هو حوار مع أنيس منصور استمر 200 يوم أحسد المؤلف عليها.. أنيس منصور صاحب الـ200 كتاب.. أشهرها وأكثرها توزيعا هو» 200 يوم حول العالم «.
يقول الدكتور العفيفي إن احتواء أنيس منصور، الشخص والشخصية، يعني احتواء مئة عام من الثقافة والسياسة والصحافة والمجتمع والناس والانعطافات والانكسارات والانتصارات والهزائم والغنائم والتحولات الداخلية والإقليمية والإنسانية والكونية. الارتحال والدوران حول عالم أنيس منصور هو ارتحال ودوران في فلك التنوير والاستنارة، رغم أضواء مصابيح الظلام في الأجواء كثنائية حياتية طبيعية، وقد غالبها بأنوار مئتي كتاب عبر سبعة وثمانين عاماً مشحونة بالمتقابلات، ومسكونة بالتناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وعن القراءة لأنيس منصور.. فان معناها أنك تقرأ ألوفاً من الكتب، في الفكر والفلسفة والدين والعلم والأدب والفن والفلك والإنسان والزمان والمكان، كتب أنيس منصور: تمتعك، تتعبك، ترهقك، تؤنسك، تزلزلك، تفترسك، تهدِك، تهدئك، تهدك، تصعد بك وتهبط، تطير وتحط، تسبح بك وتسبّـح، وتسعدك، وتحزنك، تتسع بك وتضيق، تضع العالم عند أطراف أصابعك وعينيك اللتين في طرفهما شوق للتلقي والمعرفة وامتصاص الرحيق واستئناس الحريق، فكتبه مثل الخرائط تهديك إلي غيرها، ومثل الأوراق المالية مضمونة الفائدة، ومثل البنوك فيها كل أنواع المعاملات والتحويلات.
أن تجلس إلي أنيس منصور فأنت تتقابل مع مئات الشخصيات والأشخاص في العالم، من بسطاء ومشاهير وقيادات وجماهير، وأزمنة وأمكنة، وواقع وما وراء الواقع، وأنفس وآفاق، وأرواح وأشباح، وعلماء وفنانين، وفلاحين ومثقفين، وكتاتيب وجامعات، وفنادق وصحاري، وأطراف وأطياف، وجبال وأودية، وقري وقارات، و... دنيا.
أن تستمع إلي أنيس منصور لابد أن تصغي إليه وتنصت، ليس علي شاكلة «رُبَّ مستمع والقلب في صمم»، فهو يوقظ فيك حواسك ومشاعرك ووجدانك وفكرك، فتعيش حالة من الجدل الإيجابي، وهالة من القوة الإنسانية والضعف أيضاً، إنه المحدث الساحر بقدرته علي السرد والحكي، هو سارد يدرك نوعية المسرود له.
وعن القلم والقراءة والكتابة يذكر المؤلف أن القلم كان في يد أنيس منصور مثل عصا موسي.. يهش به علي غنمه من الكلمات، يسوقها إلي المعاني، أو يسوق إليها المعاني، أحياناً، تمشي وراءه وينفخ في عصاه كأنها أرغون، ويغني ولا يلتفتُ إلي الأغنام وراءه وحوله وأمامه، هو يقول: أحياناً أري عصاي تلتهم الكلمات وتلتهم الأفكار، ولا أعرف ما جدوي أن تكون لي عصا، وأحيانا أري عصاي مثل عصا المايسترو أقود بها ما لدي من أفكار، وأهش بها علي ما لدي من كلمات، وأقوم بالتنسيق بينها جميعاً ويسعدني ذلك، وأحياناً أري عصاي مثل عصا توفيق الحكيم.. «لقد دفنت نفسي في قبور أنيقة اشتريتها من مكتبات العالم»، هكذا يصف مكتبته ومقتنياته من روائع المعرفة الإنسانية، وأن تشاهد أنيس منصور وهو يكتب متكئاً علي «عموده الفكري» أكثر من ارتكازه علي «عموده الفقري» فأنت تشاهد عملية كيمائية معقدة جدّاً، لها طقوسها وتقاليدها، ولها دلالاتها ووظائفها.