كتبت في هذا الموضوع عدة مرات، وكتبت مثل هذه السطور من ست سنوات، ولكن تتجدد الحاجة دائما إلي التذكير بمضمونها مما صرنا نعاني منه من تخليط المفاهيم، والخلط في المبادئ، وقد كان مدخلي آنذاك للموضوع المخزون المتوارث الهائل لدي إناث البشر، وأثره، وقضية المساواة ومعناها قبل أن أقول ضوابطها، والحرية وحدودها وضوابطها، وإلاّ كان في انطلاقها بغير حدود قضاءٌ مبرم عليها.
المخزون المتوارث
لدي إناث البشر مخزون متوارث هائل جداً متراكم من أحقاب وأجيال ـ خاصة لدي الحضريات.. مخزون من الاندفاع والهزل واللعب والعبث وكثرة التكرار والحديث وحب التغيير والتبديل في الأشكال وسرعة التقلب في العواطف والقدرة علي النسيان والعناية بإبراز مفاتن الجسد، ومخزون من الخيال المتشوق السطحي بغير استغراق في المعنويات والتصورات المجردة والمسئوليات الآجلة.. شديد الانشغال بالحاضر ومطالبه وكثير الاهتمام بالزبد والزهو وإثارة الرغبة والاشتهاء وإشعال نار الحاسدات والمنافسات !
الفروق لا تنمحي بمجرد المساواة!
هذا المخزون الهائل جدا لا يمكن أن يمحوه ـ أن يتساوي الإناث والذكور في التعليم والعمل، وأن تفتح للجنسين جميع منافذ الأشغال والمهن بلا تفرقة، وأن لا يفرق بين الرجال والنساء فروق في الأجور والمرتبات والحقوق.. لأن ذلـك ليس إلاّ تغييرا طارئاً في الفرص التـي يتيحها المحيط.. لا يغير شيئا يُذكر في ذلك المخزون والموروث الهائل.. كما لا يغيره أن توجد ملكة تملك أو رئيسة جمهورية تحكم أو رئيسة وزارة أو وزيرات أو رئيسة جامعة أو منظمة أو قاضية.. لأن ذلك ليس لعمـوم الجنس، وليس شيئا عاديا كما في الرجال.. ولكن بفضل مواهب أو ظروف خاصة لدي بعضهن.. وهن مع ذلك يحملن نصيبهن من ذلك المخزون الموروث.. لا يمارين فيه ولا ينكرنه بحال!
فآثار هذا المخزون لا بد أن توجد بقدر يقل أو يكثر حسب اختلاف استعدادات الأفراد، ولكن يتعيّن علي من يتعاون معهن أن يراعي دائما أنهن إناث، وأن يبذل لهن من التحمل واللياقة والآداب والانضباط ما يبذل لطبقتهن ومكانتهن مــن السيدات.. وهن يتوقعن ذلك وينتظرنه ويضقن الضيق كله إنْ لم يُبْذل طواعيةً إليهن.. لا يتصورن إطلاقاً أنهن صرن رجالاً أو كالرجال، أو لم يَعُدْنَ نساءً، أو حُرِمْن من مزايا وتوابع جنسهن ـ لمجرد الوصول إلي ما وصلن إليه من مقام أو مكانة أو سلطة أو مركز. بل هن يستمتعن بجنسهن ويشقين به كسائر الإناث.. فيتزوجن ويلدن ويترملن ويطلقن ويتعرضن للغيرة والإهمال وذهاب المحاسن والمفاتن كغيرهن من بنات جنسهن !
إن التغيير الطارئ في الفرص التي يتيحها المحيط في العصر الحديث بما في ذلك التعليم وإشراك الجنسين فيه بلا فارق، والمساواة في الحقوق والواجبات بين الجنسين ـ تغير في الآمال والأهداف والتصورات.. ولكنها لا تغير الطبيعة ولا تغير ذلك المخزون المتوارث الهائل ـ لدي الإناث !
المواجهة إنما تكون بعلاج المخبر لا المظهر
ولا توجد في العصر الحديث حركة جادة في أي بلد موجهة لعلاج هذا المخزون وتنقيته وترقيته.. بل تتحرك الجمعيات لضمان المساواة والحرية للإناث بعامة مع وجود هذا المخزون أو برغم وجوده.. وقد صادف هذا رضًا من جانب الصناعة والتجارة العالمية.. إذ صار خروج الإناث للأعمال والأشغال وصارت أجورهن ـ مصدر زيادة في اليد العاملة وزيادة في جمهور المستهلكين، سيما وهنّ أكثر إقبالاً علي الشراء من الرجال. علي أن النساء لم يكتفين بهذه المجالات الواسعة المتنوعة التي بات عمل المرأة بها محل تسليم بلا منازعة، وإنما يتطلعن إلي مزيد المزيد، وإلي أعمال لا تتفق وطبيعة المرأة واستعداداتها، ففي الوقت الذي لا تطالبن فيه بأداء الخدمة العسكرية في صفـوف الجنديــة، تصممن علي طلـب « الإمامة » حتي في الصلاة بالذكور والإناث، وبالولاية العامة وبرئاسة الجمهوريات فضلا عن الوزارات ورئاسة الحكومات، وفي ولاية القضاء حتي في أقضيات الجناية علي الأنفس وفي الدماء.. دون مبالاة بالاستعداد الشخصي وهو وارد حتي علي اختيار الرجال.. فليس كل رجل صالحاً لما يصلح لتوليه رجلٌ آخر، وضعيف البنية ـ وإن كان من الرجال ـ لا يستطيع القيام بأعمال شاقة لحمل الأثقال وأعمال البناء والأفران وغيرها من الأعمال التي تحتاج إلي متانة جسدية وقوة عضلية، وهي أعمال لا تقدر عليها المرأة فضلا عن أن تحسنها.. وهي إذ لا تطلبها ولا تسعي إليها ولا تقبلها مثلما لا تقبل الخدمة العسكرية في الصفوف، فإنها تصطفي وظائف بعينها تملأ الدنيا مطالبة بالقيام بها كولاية الأمر والقضاء وإمامة الصلاة علي المصلين وإن كان بينهم رجال.
مساواة ضريرة
وامتدت المطالبات إلي المساواة في العقوبة وفي العذر المخفف لمن يقتل لحظة ضبط حالة التلبس بالزنا، مع أن القياس فيه فارق كبير، فالزوج يستطيع أن يجزم ويقطع بأن ما ضبطه زنا لا يحتمل التأويل، لأن تعدد الأزواج محرم وغير مباح، بينما لا تستطيع الزوجة أن تجزم بذلك في الحال، لأن الشرع والقانون قد أباحا تعدد الزوجات، ومعني مساواتها في العذر المخفف أن تباح لها المبادرة بقتل من قد يظهر أنها زوجة أخري لزوجها، وأن العلاقة شرعية لا جرم فيها يعذر المبادرة بالقتل. وقد تبع ولازم هذا الإسراف في مساواة تفتقد معاييرها وضوابطها، السكوت والتواني عن معالجة كثير من القضايا التي أشرنا لبعضها وتستوجب التدخل لرعاية وحماية المرأة التي سبق الإسلام جميع الشرائع والقوانين في تكريمها وحفظ حقوقها.
من مساوئ المساواة الحسابية!
وهذا الاعتراف في عصرنا بالمساواة (الحسابية!) والحريـة للنساء.. قد أدي إلي الاعتراف في بعض البلدان بحرية الجنس بعامة.. ففي بعض البلاد الغربية لم يعد يُرفض أو يُقاوم أو يُعاب الشذوذ الجنسي بين الرجل والرجل أو بين المرأة والمرأة.. ولم تعد هذه المجتمعات تطلب العَذْرة أو البكارة في الزواج، أو تحاسب الفتاة علي علاقاتها الجنسية السابقة عليه. كما لم يعد للزواج هيبة ولا للطلاق صعوبة.. بل هان كل من الزواج والطلاق وهان لذلك اهتمام النساء والرجال بالأولاد وقلّ شأن الأسرة في نظر الصغار لأنها فقدت قيمتها عند الكبار!
فوارق الطبيعة والاعتياد!
وجاءت ردود أفعال المتدينين ورجال الدين ـ قليلة الجدوي برغم أنها عالية الصوت كثيرة الكلام.. ولم يفطن أحد إلي أن ذلك المخزون الهائل الموروث يمكن ويجب تنقيته وترقيته.. فهو ليس طبيعة وإنما اكتساب واعتياد اجتماعي عميق الجذور جدا يحتاج تعليم الأنثي عن نفسها ما لا يعرف عنه الذكور عادة إلاّ القليل.. وتدريبها علي تنقية هذا الموروث وترقيته.. حتي لا تفاجأ مع إطلاق الحرية والمساواة ـ بتداعي الشقاء والحيرة والفشل كما هو حادث الآن!
بعض اختلالات البوصلة!
ثم لا يوجد في أصل العقل اعتراض علي الزينة الوقورة وإخفائها وإعلانها، ولا علي التطيب والعناية بالمظهر مع الاحتشام، إنما الإشكال فيما يكون خلف ذلك من الاكتفاء بقصد عام مبهم، ومن عـدم ثبات المقاصـد.. وذلك ناطق بقلة اتزان النفس.. إذ ليس يكفي تقليد أخريات أو آخرين فيما يفعلن في أنفسهن أو يفعلون في أنفسهم إذا لم يكن لدي الآدمي قصد جاد لغرض خاص به بالذات.. إذ من الحمق العام ألاّ نلتفت إلي المخزون الهائل الموروث الذي لا نفكر في تنقيته.. بل نحوم حوله بلا انقطاع.. ونفسح المجال أمامه للتعبير عن نفسه ـ بالدعوة إلي المساواة والحرية.. كأنما هذه الدعوة ستقوم بذاتها بتنقية وترقية ذلك المخزون !
وربما نجد خلف هذا الحمق العام في البلاد المتشحة بالتقدم.. نجد حرية الجنس أي حرية الآدمي ذكراً أو أنثي في التصرف في نفسه جنسيا وفق مشيئته.. وقد استعمل المراهقون من الجنسين هذه الحرية كالبالغين.. فالكل حر في أن يلتقط ما يشتهي عند من يصادفه بشرط التراضي.. وحر في إظهار وإعلان مفاتنه علي الملأ بمثل هذا الاحتمال المبهم!!
فوارق خفيه، وأمل مأمول
وهذا قد أخفي أو كاد أن يخفي الفارق المادي الذي كان موجودا ظاهراً للعيون ـ بين الفحش والفواحش والفاحشين، وبيـن جمهور الأسوياء.. وصارت التفرقة تفرقة ظنية معنوية شخصية يزيد فيها الفرد أو ينقص ما يشاء كما يشاء. فتراكمت دواعي الحيرة في الشك وعدم الثقة، وتجمعت فرص الخيبة وإساءة الظن بالناس وبالأيام، وغلب التشاؤم لدي الأجيال الحاضرة التي قابلت في سن مبكرة جداً العديد من الخبرات المروعة بدنياً ونفسياً علي غير استعداد وقبل النضج البدني والعقلي.. ويصعب جداً علاج عواقب هذه الخبرات فيهم وفي من يتعايشون معهم وفي ذراريهم. هذا كله لا يلتفت إليه إلا قليلون جداً.. لأن مجاله هائل يشمل جميع الطبقات ويخالط حياتهم اليومية.. ويقابل في كل منعطف وكل طريق وكل بيت وكل أسرة.. نهارا وليلا وصيفاً وشتاءً في جميع البلاد المتقدمة!!
ظني أننا بتنا نحتاج لضبط كثير من المفاهيم!