في عام ١٩٥١ تولي طه حسين وزارة المعارف العمومية. وكان مصطفي النحاس أحد أعظم زعماء الأمة المصرية مصرا عليه إلي درجة أنه هدد بعدم قبوله تشكيل الوزارة في حالة إعتراض الملك فاروق عليه. جاء طه حسين ليطبق ما كتبه عام ١٩٣٨ في كتابه الذي مازال فاعلا حتي الآن «مستقبل الثقافة المصرية»، وفي رأيي أن أي وزير ثقافة أو تعليم أو تعليم عالي يجب أن يقرأ هذا الكتاب قبل ممارسة مهام منصبه، ما تضمنه وما حققه طه حسين كثير جد، لكنني أتوقف عند أحد المآثر الكبري التي أنجزها للثقافة العربية وإلي ما آلت إليه، لأن طه حسين كان مثقفا كبيرا ذا رؤية قرر انشاء مركز ثقافي مصري أقرب إلي المعهد العلمي، في مدريد عاصمة أسبانيا، الاختيار لاسباب تاريخية وثقافية، في الاندلس جري تفاعل ثقافي عميق لمدة ثمانية قرون أثمر عقولا عربية عظيمة منها الشيخ الاكبر محيي الدين ابن عربي وابن رشد، تجسد هذا التفاعل في جميع المجالات، العمارة، الموسيقي ، الفنون كافة، وبقدر ما كان هذا التفاعل خلاقا بقدر ما أعقبته جفوة أو تباعد بعد خروج العرب من الاندلس في القرن الخامس عشر، وضع طه حسين من خلال هذا المعهد أسس التقارب التي تتجاوز جميع الحساسيات والتي كان يمكن أن تشكل حاجزا بين العالم العربي وأقرب الدول الاوروبية إليه، اختار طه حسين مبني كبيرا مهيبا أنيقا في قلب مدريد، وأختار له أكبر الاساتذة المتخصصين في آداب و تاريخ وفنون الاندلس ، أذكر منهم الدكتور حسين مؤنس، والدكتور صلاح فضل، كان المركز نقطة اشعاع قوية للثقافة العربية كلها، فمصر لا تعرف التحزب المذهبي أو العرقي، فيه تعلم آلاف الاسبان اللغة العربية، وتلقي المتخصصون من الاجيال الجديدة دروسا في مجالات تخصصهم، وصدر عن مطبعته التي تعد الآن من الآثار المهمة مجلة رفيعة المستوي للدراسات العربية - الاسبانية، استمر الحال هكذا بحيث أصبح من أهم المراكز الثقافية في أوروبا وتحققت رؤية طه حسين، لكن مع التحول الذي أصاب منصب المستشار الثقافي في السنوات الاخيرة بدأ تدهور المركز وتراجعه، قضية المستشارين الثقافيين في الخارج تحتاج إلي إعادة نظر جذرية، لقد تحول هذا الموقع من رسالة إلي وظيفة لزيادة الدخل، ويتبع هؤلاء وزارة التعليم العالي ، ولا دور لوزارة الثقافة ولا رأي فيمن يتولي، في زيارتي الاخيرة لمدريد فوجئت باختفاء المعهد من خريطة الثقافة وانشطتها، كان المستشار الذي لم اسمع به يقضي اجازة في فرنسا، وبالطبع هذا حقه، لكن المركز الذي كان مقصدا ثقافيا وسياحيا يجذب آلاف السائحين إلي مصر ويختصر ويقرب الثقافتين العريقتين لم يعد له وجود ثقافي. بل إن الاساتذة المتخصصين توقفوا عن التعامل معه، مازال مبني طه حسين قائما ، لكنه بارد، فارغ، مهمل، مبني ضخم كان صرحا في يوم ما، أما السفارة المصرية فتشغل شقة في عمارة رغم كل ما تقوم به، أناشد المهندس محلب بإعادة النظر في الاسس والطريقة التي يتم بهااختيار هؤلاء المستشارين ودور المراكز الثقافية في الخارج أما الوضع الحالي فهو أحد مظاهر الخلل الجسيم في الدولة.