رسائل إخوان الصفا من أشهر المتون الفلسفية العربية، ألفه مجموعة من الفلاسفة غير المعروفين، إلا أن أبوحيان التوحيدي كشف عن اسمائهم في كتابه «الامتاع والمؤانسة» وهو أحدهم، كُتب المتن في القرن الرابع الهجري، وقد أصدرته في سلسلة «الذخائر» التي اشرفت عليها في التسعينيات الماضية وصدرت عن هيئة قصور الثقافة، من الرسائل اقتبس هذه الشذرات طوال شهر رمضان.
واحد:
الألفاظ تدل علي المعاني، والمعاني هي المسميات، والألفاظ هي المعاني، وأعم الألفاظ والأسماء قولنا «الشيء» والشيء إما أن يكون واحدا أو أكثر من واحد، فالواحد يقال علي الوجهين، إما بالحقيقة أو المجاز، فالواحد بالحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة ولا ينقسم وكل ما لا ينقسم فهو واحد من تلك الجهة التي بها لا ينقسم، وإن شئت قلت: الواحد ما ليس فيه غيره، بما هو واحد، وأما الواحد بالمجاز فهو كل جملة يقال لها واحد كما يقال عشرة واحدة، ومائة واحدة، وألف واحد، والواحد واحد بالوحدة كما أن الاسود أسود بالسواد، والوحدة صفة للواحد، كما ان السواد صفة للأسود، وأما الكثرة فهي جملة لأحاد. وأول الكثرة الاثنان، ثم الثلاثة، ثم الأربعة، ثم الخمسة، وما زاد علي ذلك بالغا ما بلغ.
أربعة:
الأمور الطبيعية أكثرها جعلها الباري جل ثناؤه، مربعات مثل الطبائع الأربع، التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومثل الاركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ومثل الاخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان، المرة الصفراء والمرة السوداء، ومثل الأزمان الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربعة، والرياح الأربع: الصبا والدبور والجنوب والشمال، والمكونات الأربع التي هي المعادن والنبات والحيوان والإنس.
وأعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن العدد كله احاده وعشراته ومئاته وألوفه، أو ما زاد بالغا ما بلغ، فأصلها كلها من الواحد.
التعاون:
اعلم يا أخي، بأن الانسان الواحد لا يقدر أن يعيش وحده إلا عيشا نكدا، لانه محتاج إلي طيب العيش من إحكام صنائع شتي ولا يمكن الانسان الواحد ان يبلغها كلها، لأن العمر قصير والصنائع كثيرة. فمن اجل هذا اجتمع في كل مدينة أو قرية أناس كثيرون لمعاونة بعضهم بعضا، وقد اوجبت الحكمة الالهية والعناية الربانية بأن يشتغل جماعة منهم باحكام الصنائع وجماعة في التجارات وجماعة باحكام البنيان وجماعة بتدبير السياسات وجماعة باحكام العلوم وتعليمها، وجماعة بالخدمة للجميع والسعي في حوائجهم، لان مثلهم في ذلك كمثل اخوة من أب واحد في منزل واحد، متعاونين في أمر مشيئتهم، كل منهم في وجه منها.
وأعلم ان الحكماء إذا ضربوا مثلا لأمور الدنيا، فإنما غرضهم منه امور الآخرة، والاشارة إليها بضروب الامثال بحسب ما تحتمل عقول الناس في كل زمان ومكان.