بدأت ملامح نمو النهضة العلمية الإسلامية في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي عندما أمر الخليفة هارون الرشيد (786 - 809م) بترجمة بعض الأعمال من التراث العلمي القديم إلي العربية واستمر بل وازداد وتوسع هذا النشاط بدرجة كبيرة في عهد الخليفة المأمون (813م) الذي قام بإنشاء «بيت الحكمة» في بغداد في عام 830م كأول مركز علمي إسلامي أو أكاديمية علمية في الشرق، كان عبارة عن مكتبة جامعة ومجمع علمي وأدبي ودار ترجمة، ويعتبر أهم معهد علمي تم تأسيسه منذ تأسيس مكتبة الإسكندرية. استحضر الخليفة المأمون العلماء من كل الأديان والأجناس من المسلمين ومن المسيحيين واليهود ومن العرب والفرس والمصريين والأفغان والأتراك وغيرهم.

نشطت أعمال الترجمة بدرجة كبيرة في بيت الحكمة الذي كان أغلب علمائه من المسلمين، إلا أنه كان هناك عدد من غير المسلمين، فمثلاً قام أبو يحيي بن البطريق (796 - 806م) وهو مسيحي بترجمة أعمال هيبوكراتس وجالينوس إلي العربية، كما قام مشاالله وهو يهودي مصري بالترجمة من اليونانية القديمة والعبرية إلي العربية، وكذلك يعقوب بن طارق ومنسي اليهودي المصري ويحيي بن أبي منصور (مسيحي) ويهوذا بن قريش يهودي من المغرب وبنيامين وابنه الفضل وجبريل بن بختياشو (مسيحي) والفارسي نوبخت، كانوا جميعاً يتحدثون العربية والبعض منهم يعرف اليونانية القديمة والفارسية والعبرية، وقاموا بالترجمة من مختلف اللغات والأصول إلي اللغة العربية، عملوا جميعاً في بيت الحكمة بحسب نظم عمل دقيقة، وكان العمل يجري في اتجاهين، فكان هناك فريق متخصص في ترجمة تراث اليونانيين القدماء (الإغريق) أغلبه ممن عاشوا في مصر والإسكندرية وعلي علم بما تبقي من التراث اليوناني بعد حريق مكتبة الإسكندرية، والاتجاه الآخر كان يقوم به فريق آخر وهو ترجمة علوم الهند والفرس والأتراك وبابل وآشور.

أطلق علي هذه المرحلة التي نشطت فيها أعمال الترجمة في عهد المأمون «العصر الفضي» ويدين العالم بالفضل لعلماء النهضة الإسلامية حيث كانت عمليات الترجمة هذه السبب في حفظ التراث العلمي الإنساني القديم، ويشير المؤرخ ديرك سترويك في كتابه «مختصر تاريخ الرياضيات» إلي هذا بقوله «أن العلماء العرب جمعوا التراث الإغريقي وترجموه بإخلاص إلي اللغة العربية مثل أعمال أرشميدس وإقليدس وغيرهما، وأن الاتفاق العام في جميع أنحاء العالم علي أن ترجمة أعمال بطليموس «الماجست» ليدل علي دور وتأثير الترجمة العربية علي الغرب»، وترجمة موسوعة بطليموس التي تسمي «الماجست» هي من أهم أعمال الترجمة التي يشير إليها المؤرخون باستمرار، حيث ان الماجست كان بمثابة دائرة معارف يونانية شاملة استندت علي مشاهدات المصريين القدماء حول النجوم والبروج وحركة الشمس ومعرفة مواعيد الانقلاب الشتوي والانقلاب الصيفي والاعتدال الربيعي والاعتدال الخريفي وحركة القمر، كما ضمت الماجست ما تم توثيقه في التراث الإغريقي الذي أضاف إلي المشاهدات المصرية القديمة وتناول بعقلانية تفسير بعض هذه المشاهدات وأسبابها، كما تم تطوير البعض فيها خاصةً بعد معرفة كروية الأرض.

لم تكن النهضة الإسلامية هي مجرد الترجمة بل كانت بدايتها، فبعد أن تم تجميع كل ما كان متاحاً من تراث العلم القديم علي اختلاف مصادره وتمت ترجمته إلي اللغة العربية، قام العلماء المسلمون بدراسة واستيعاب مفاهيم ومضامين هذا التراث دون أي تعصب ديني أو تعصب لفئة معينة أو لشعب بذاته بل تمت الدراسة بكل معاني الإنصاف بهدف واحد هو تحري الحقيقة، وزادوا عليه تحقيقاً واكتشافاً وتطويراً، وكما أشار جورج سارتون «لا يوجد أي عمل هام من أعمال العصر الذهبي اليوناني القديم لم يترجمه العرب ثم دراسته والتمعن فيه».. حفظ علماء المسلمين وثائقهم العربية في مراكز البحوث ومعاهد العلم والمكتبات في العراق ومصر والشام والأندلس في قرطبة وطليطلة، وقاموا علي دراستها واستيعابها وتبنوا ما ثبتت صحته وصححوا ما كان خطأ وشرحوا ما كان مشوَّشاً وبدأوا في الإضافة إليها، كما قاموا بتطوير العديد من الفرضيات والنظريات، وبمرور الوقت اتسع أفق النشاط العلمي وزادت القدرة علي البحث والإبداع وازدهرت طرق البحث العلمي واتسعت لتضم الابتكار والاختراع وارتقوا بالتراث إلي مستويات علمية مشهود لها، ولذلك وصف هذا العصر بـ «العصر الذهبي» بزغت فيه إشعاعات الحضارة الإسلامية وتبلورت فيه المعارف في مجال العلوم الطبيعية والتطبيقية والرياضيات بسرعة كبيرة في الوقت الذي كانت أوروبا تعيش في حالة استرخاء علمي ومعرفي وتغط في عصور الظلام، وأصبحت الجامعات الإسلامية في قرطبة وطليطلة منارة العلم والإبداع، وكانت اللغة العربية هي لغة العلم، وكان علي من يرغب في الاستزادة من العلم أن يتعلم اللغة العربية.. أتاح المناخ العلمي والاجتماعي والسياسي المواتي في عصر الدولة الإسلامية نمو وازدهار نهضة علمية من خلال البحث والتطوير والسعي إلي المعرفة، وصلت إلي أوجها في القرنين العاشر والحادي عشر أي في وقت قصير في عرف الزمن وهو ما أشار إليه جورج سارتون وأسماه بالمعجزة العربية بقوله «يمكننا التحدث عن القدرة العربية بالقول ان القدرة الإبداعية لحضارة عربية وبهذا الحجم في أقل من قرنين من الزمان لا يمكن تفسيرها».