قبل سنوات، ومع بدء العمل في تتنفيذ مشروع مترو الأنفاق بالقاهرة، جمعني لقاء مع رئيس شركة «سيماف» المتخصصة في إنتاج القطارات. كان الرجل غاضباً من اللجوء لاستيراد عربات المترو من الخارج، بينما شركته ـ كما أكد لنا ـ قادمة علي إنتاجها بنفس الجودة، وبتكلفة أقل بكثير. سألت عن السبب، فقال الرجل إنهم يتعللون بأنهم سيمولون الصفقة بقرض أجنبي «ياباني كما أذكر» وكأننا لن نسدده (!!) وبالحديث عن فائدة منخفضة علي القرض، وكأن الزيادة المبالغ فيها في الأسعار لن تعوضها(!)
أما الحقيقة التي عرفتها بعد ذلك أنه في هذا التاريخ حيث انفتحت أبواب الاستدانة علي البحري تمهيدا للهيمنة الاقتصادية والسياسية علي البلد، وحيث دولة الفساد كانت قد بدأت تزدهر، فإن الاستدانة وعربات المترو كانت لأن ممثل الشركة الأجنبية في القاهرة كان أخو وزير الصناعة المصري.. ولا حاجة بعد ذلك للتفاصيل(!) وإنما الحاجة فقط للتأكيد علي أن رئيس «سيماف» يومها أكد انه لن يحتاج إلا لما بين عشرة وعشرين في المائة من قيمة القرض لاستيراد ما يلزمه من الخارج بالعملة الأجنبية!
دارت الأيام بعد ذلك، وتدهورت الأحوال بالشركة المصرية الكبيرة مثل غيرها من قلاع الصناعة التي تم تخريبها بالعمد أو بالإهمال. حتي تم إنقاذ الشركة بتدخل الهيئة العربية للتصنيع. وكم سعدت قبل أيام وأنا أقرأ تصريحات رئيس الهيئة الفريق عبدالعزيز سيف الدين ووزير النقل هاني ضاحي عن تطور العمل في هذه الشركة أثناء تفقد أول إنتاجها الجديد من عربات السكة الحديد وعربات مترو الأنفاق المكيفة، بالإضافة إلي التجديد الشامل لعربات ترام الإسكندرية.
كان الحديث يدور حول تصنيع عربات القطارات والمترو بالكامل «بنسبة المنتج المحلي الآن أكثر من ٥٠٪» وأن هذا الإنتاج تشارك فيه حوالي مائة شركة وطنية، لنجد أنفسناأمام نموذج للجدية والإنتاج وتوسيع رقعة التعاون من أجل تطوير الصناعة المحلية.. وهو بيت القصيد وأساس التقدم ينبغي التركيز عليه في المرحلة القادمة.
وإذا كان طبيعيا في البداية أن نركز علي إصلاح البنية الأساسية، فإن علينا أن نتجه فوراً إلي تعظيم الإنتاج وخاصة في مجال الصناعة، لا يمكن أن نكون في الظروف التي نمر بها ولا نبذل كل الجهد لتشغيل مئات المصانع المعطلة أو التي تعمل بنصف أو ربع طاقتها الإنتاجية.
ولا يمكن أن نتصور طريقا لبلد فيه ٩٠ مليون مواطن لا يمر عبر تكثيف كل الجهد وراء الصناعة الوطنية والاعتماد الكامل علي ما ننتجه ثم التوسع في التصدير خاصة إلي الأسواق القريبة في البلاد العربية والافريقية التي كانت تحمل تقديرا كبيرا لمصنوعاتنا، فقدنا الكثير منه ـ للأسف الشديد ـ في سنوات الانحسار، وفي ظل سياسات اقتصادية فاسدة وإهمال للصناعة والإنتاج، وهيمنة للسماسرة  وسطوة لعقدة الخواجة، وإهمال لقيمة كانت تسود حياتنا ولابد من استرجاعها وهي الاعتزاز بكل ما «صنع في مصر».