‎تسمية هذا الكيان الإرهابي نفسه بأنه دولة إسلامية، تسمية ضالة كاذبة بشقيها، فلا هي دولة، فهي تفتقد أبسط مقومات الدول، وتفتقد كل غايات الدول في البناء والعمار لا الهدم والقتل والدمار، وهي ليست إسلامية، ولا تنتمي للإسلام، وإنما عمادها الكراهية والإسلام عماده المحبة والتعارف والتساند والتكافل.
‎يقول الخالق البارئ جل شأنه في قرآنه المبين، في خطاب موجه إلي الناس جميعا، لا إلي أبناء دين بعينه أو جنسية بعينها أو انتماء بعينه : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَي وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». (الحجرات ١٣).
‎في الإسلام الذي يجهله هؤلاء : ربُّ الناس واحد، هو رب العالمين، ربهم هنا، وربهم هناك، وربهم في كل مكان.. ربهم اليوم، وربهم بأمس، وربهم إلي أبد الآبدين، وهم جميعا ينتمون إلي أصل واحد، خالقهم ومبدعهم هو الله، خلقهم جميعا من طين، ونسبهم جميعا ـ وفق إرادته ـ إلي أب واحد وأم واحدة.. الأسرة الإنسانية أسرة واحدة
‎لا فرق بين جنس وجنس، ولا بين شعب وشعب.. أصل هذه الإنسانية واحد، وتكرر الخطاب بذلك في القرآن المجيد، فيقول تعالت حكمته : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (النساء 1 )، ويقول : « وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ » ( الأنعام 98 )، ويقول عز من قائل : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا » ( الأعراف 189 ).
‎لا يطلب الله من أحدٍ في الأسرة الإنسانية أن يبغي علي الآخرين، أو يظلم أو يجور أو يسعي للعلو في الأرض، وإنما يطلب الله تعالي منا الولاء له والاتجاه إليه لكي يغمر الدنيا السلام والاستقامة والعدل والمحبة.. ليس بوسع إنسان أن يحقق شيئا بمفرده، ولا مناص أمامه من أن يتساند مع الإنسانية ويتكافل معها في إخلاص وإيمان، وان تخلص روحه إلي بارئها، وخلاصها إذا ما أخطأت هو في التوبة المنيبة إلي الله، فبهذه التوبة الصادقة تغتسل روح الإنسان، ويتواصل أملها وعطاؤها في الحياة.
‎وحدة الإنسانية حقيقة ينوه بها القرآن المجيد، ودين الله واحد أصله واحد وإن تعددت الشرائع، والإسلام ما هو إلاَّ الإسلام لرب العالمين، يصدق ذلك علي ما جاء به إبراهيم ويعقوب وموسي وعيسي «عليهم السلام» كما يصدق علي ما جاء به محمد «صلي الله عليه وسلم».. ففي خطاب عام يقول رب العزة في قرآنه المجيد :
‎«أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ » ( آل عمران 83 ).
‎«إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّي بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ » (البقرة 131، 132 )
‎«صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ » ( البقرة 138).
‎«فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَي اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ » ( يونس 72 ).
‎« فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَي مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَي اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ » ( آل عمران 52 ).
‎وقال تعالي في خطاب إلي محمد المصطفي والمؤمنين به :
‎ «قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَي وَعِيسَي وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » ( البقرة 136 وآل عمران 84 ).
<<<
‎وحدة الإنسانية حقيقة كبري في الإسلام، ولا مجال في دين الله وهو واحد، للفروق التي تباعد بين الناس علي أساس العرق أو الدم أو الثروة أو الحرية أو اللون أو الجنس أو الموطن أو التاريخ.. هذه المسميات لا تنطوي علي فروق حقيقية بين الإنسان والإنسان.. الإنسان خَلْقُ الله وصناعة الله، ولا مكان لهذه الفروق الباطلة في الولاء لله عز وجل.. هذا الولاء المشترك يلغي الفروق الأرضية ويجمع الإنسانية كلها علي طريق التقارب والتقريب بين بني الإنسان لوحدة الإنسانية.
‎
إقحام الفروق الأرضية
‎يفسد العلاقة الروحية بين الإنسان وخالقه
‎
الذين يقحمون الفروق الفردية الأرضية في علاقة الإنسان بخالقه، يفسدون علي ما دراية ـ العلاقة الروحية بين الإنسان وربه، ويخلقون بالتوحيد ويشوشون عليه، بإسباغ الإلهي علي الأرض، وهو ما لا يرضي الله عز وجل .
‎الكرامة عند الله تعالي هي للإنسان، الذي كرمه الله من حيث هو إنسان، وفضّله علي كثير من خلقه تفضيلا.. ( الإسراء 70 )، ولا كرامة عند الله علي أساس الانتماء إلي شعب أو جنس أو سلالة أو طائفة، فالإنسان هنا هو الإنسان هناك، خلقه الله وصنعه الله وأبدعه الله.. ولا قيمة لهذه الفروق الآنية التي جعل الله الناس عليها ليتعارفوا في النهاية في رحاب قانون أسمي أن أكرمهم عند الله أتقاهم..
‎من يتعلق بهذه الفروق الأرضية، أو يعبد الله علي هذه الفروق الظرفية، لا يحب الله حبَّا حقيقيًّا خالصًا، ولا يتجه إلي الله اتجاهًا منيبًا نقيًّا، في ولاء لا تشوبه شائبة شرك أو ضلال. الله تعالي رب العالمين ؛ يقول تعالت حكمته :
‎«تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَي عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا » (الفرقان 1).
‎دين الله واحد، والرسل الأنبياء هم فروع شجرة واحدة، وبناة بيت واحد يؤسس السابق للاّحق ويكمل اللاّحق ما سبق إليه السالف.. عن هذه الحكمة الإلهية تحدثت الآية 136 من سورة البقرة والآية 84 من سورة آل عمران علي ما مَرَّ بنا، ومن يتابع المبادئ الأساسية في القرآن الحكيم، تصافحه معالم هذه الوحدة لدين الله الذي لا يتقيد بمكان ولا بزمان، ولا بجنسٍ ولا بشعب. الاتجاه إلي الله يجاوز حدود الزمان والمكان، ويتجه إليه سبحانه بقلب منيب.
‎يقول عز وجل لنبيه المصطفي عليه الصلاة والسلام :
‎« قُلْ إِنَّ هُدَي اللّهِ هُوَ الْهُدَيَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ » (الأنعام 71).
‎« قُلْ إِنَّمَا يُوحَي إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ » (الأنبياء 108).
‎
العبودية لله
‎ لا يتقبل الله من عبده، إلاَّ أن تكون عبوديته لله وحده، لا تقحم عليها مكانة لحاكم أو ملك أو سلطان، ومن يتأمل سيرة رسول القرآن ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعرف أن تاريخ حياته هو مفتاح كنوز سنته.. حياته عليه السلام حياة روح لم تفارق قط الاتجاه إلي الله في أي لحظة، ولم تنس قط عبوديتها لله عز وجل، ولم تحاول مجرد محاولة ـ أن تحمل أحداً علي نسيان عبوديته لله، حتي وهو يذكر نبي الإسلام.. فإنه يقرن به أنه « عبد الله ورسوله ».
‎سنة النبي المصطفي عليه الصلاة والسلام ـ هي أولاً وأساسًا : حياته في الله. هي ذلك التيار الواعي المطرد الجريان، الموجه أصليًّا إلي هداية الإنسان حيث كان، لا يتقيد بالرقعة المكانية التي فيها نزل، ولا بالرقعة البشرية التي اتجه في أول أمره إليها، وإنما هو هدي ورحمة إلي الناس كافة..
‎«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا » (سبأ 28).
‎«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ » (الأنبياء 107).
‎«قُلْ إِنَّ هُدَي اللّهِ هُوَ الْهُدَيَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ » (الأنعام 71).
‎ وحدة وعالمية الدين، أساسها توحيد الله عز وجل، ووحدة العبودية لله، ووحدة الرحمة الإلهية، وتطابق الفطرة الإنسانية في أجناس البشر، وتساويها في ظل الله في الدنيا والآخرة.
‎
لا زعامة ولا وصاية في الدين
‎بقي أن نقول لداعش ولغير داعش، إنه لا زعامة في الدين، ولم ينتشر الدين بزعامة ولا بسيف ولا بقسر ولا بقهر أو إرغام، وإنما انتشر الدين « بنــور الهداية وسلامة اليقين »، وانتشر الإسلام في أوروبا وأطراف الأرض في زمن لم تكن له فيه دولة ولا جيوش، تدل علي ذلك دوائر المعارف الأجنبية قبل المصادر المحلية (كتابنا : بين شجون الوطن وعطر الأحباب ط 1 ص89)، وجري هذا الانتشار الواسع في بلاد لم تشهد أي فتوحات إسلامية، ولم تشهد أي زعامة لأي شعب من الشعوب الإسلامية.
‎ دعوة الحق دعوة عالمية بذاتها، ولا تعني أن يتسيد أهل أي دين علي العالم كله سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو فكريًّا.. فالاتجاه إلي الله خالٍ تمامًا من التسيد علي الخلق، أو اصطناع حق الوصاية والسيطرة والتسلط علي الأرواح والعقول.
‎إن الحركة إلي الله، والاتجاه إليه، والولاء له ـ تحرك نشاط لروح حرة حية نشطة، وأجمل ما في هذه العقيدة هو بقاء جوهرها حيًّا علي مر الزمن، يفضي من جيل إلي أجيال جديدة، من الأرواح والعقول إلي ما شاء الله.