لنا أن نتخيل الوضع السياسي والاقتصادي والأمني للبلاد لو جرت الانتخابات البرلمانية أولاً وظللنا حتي ٢٠١٥ بدون رئيس منتخب

في أقل من ٥ سنوات عشنا مع ثورتين و٥ حكام و٣ برلمانات بينها سنوات بلا ممثلين منتخبين عن الشعب، و٣ دساتير تعطل منها اثنان وفصل بين كل منها إعلانات دستورية وإعلانات معدلة وأخري مكملة.
عشنا ثلاث مراحل انتقالية، منها اثنتان استغرقتا ثلاثين شهرا، وثالثة اكتملت خطواتها بعد مضي نحو ثلاثين شهراً.
في الحادي عشر من فبراير عام 2011.. بدأت مرحلة الانتقال الأولي عندما تسلم المجلس الأعلي للقوات المسلحة مسئولية إدارة شئون البلاد، وانتهت هذه المرحلة يوم الثلاثين من يونيو عام 2012 بتسليم الدكتور محمد مرسي السلطة في البلاد.
غير أن الإخوان المسلمين حولوا بأيديهم وأفعالهم مدة حكمهم الي مرحلة انتقالية ثانية، واختاروا - كما كتبت بعد خمسة أسابيع من تنصيب مرسي - أن يكونوا «جملة اعتراضية في تاريخ الوطن».
وفي الثالث من يوليو عام 2013، بدأنا مرحلة الانتقال الثالثة، وهاقد أنجزنا بانتخاب البرلمان آخر استحقاقاتها، لتنتهي مراحل الانتقال السياسي التي عشناها قرابة خمس سنوات.
< < <
قبل نهاية الشهر الحالي.. يلقي الرئيس عبدالفتاح السيسي بيانه أمام مجلس النواب المنتخب في افتتاح الفصل التشريعي الأول للبرلمان المصري الجديد ذي الغرفة الواحدة.
في هذا اليوم يسلم الرئيس إلي مجلس النواب سلطة التشريع التي ظلت موكولة إليه منذ تولي منصب الرئيس قبل ١٨ شهراً مضت لحين انتخاب البرلمان.
بانتخاب مجلس النواب نكون قد قطعنا الخطوة الثالثة والأخيرة من خارطة المستقبل، وأكملنا بناء مؤسسات الدولة الدستورية.
في بيان الثالث من يوليو، تحددت الخطوات الثلاث لخارطة المستقبل علي أساس إجراء تعديلات علي دستور ٢٠١٢ المعطل، ثم إجراء انتخابات برلمانية، وأخيرا انتخاب رئيس الجمهورية.
يوم ١٨ يناير عام ٢٠١٤، صدر الدستور المعدل الذي عرف بدستور ٢٠١٤، بعد أن وافق الشعب في الاستفتاء الذي أجري يومي ١٤ و١٥ يناير علي مشروع التعديلات الدستورية التي شملت الغالبية العظمي من مواد دستور ٢٠١٢.
جاء الدستور الجديد تعبيرا عن حدود دنيا للتوافق الوطني في لحظة معينة، يومها قلنا ان الدستور ليس كتابا منزلا، وقلنا في نفس الوقت إنه ليس وثيقة انتقالية نعدلها كل يوم.
كان مقرراً وفقا لخارطة المستقبل أن تجري الانتخابات البرلمانية قبل انتخاب الرئيس.
ولنا أن نتخيل الوضع السياسي والاقتصادي والأمني للبلاد، لو كانت الانتخابات البرلمانية اجريت أولاً هذا العام، وظللنا إلي مطلع ٢٠١٥ وربما منتصفه بدون رئيس منتخب، وفي ظل حكم مؤقت يستمر ٣٠ شهراً وسط طوق محكم من العزلة الدولية، وفي خضم حرب ضروس مع الارهاب متعددة الجبهات ومسارح العمليات، وفي غياب قرارات استراتيجية بشأن مشروعات كبري تخاطب المستقبل، لا يقدر الحكم المؤقت علي اتخاذها، فضلا عن مجرد التفكير فيها، كمشروع ازدواج قناة السويس، ومشروع إنشاء المحطة النووية في الضبعة، ومشروع استصلاح المليون ونصف المليون فدان.
علي كل حال.. استجاب الرئيس المؤقت عدلي منصور لاتجاه غلاب لدي الرأي العام، اختبره بنفسه في أكثر من لقاء مع المفكرين والمثقفين وممثلي فئات وطوائف الشعب، وشاهد نتائجه في استطلاعات رأي جرت في حضوره، وذهبت بأغلبية كبري نحو تفضيل إجراء الانتخابات الرئاسية قبيل انتخاب البرلمان.
وغداة الذكري الثالثة لثورة ٢٥ يناير، أعلن الرئيس المؤقت يوم ٢٦ يناير ٢٠١٤، عن تعديل خارطة المستقبل بما يسمح بانتخاب رئيس الجمهورية قبل انتخابات مجلس النواب.
في الثامن من يونيو ٢٠١٤، جري تنصيب عبدالفتاح السيسي الذي فاز في انتخابات الرئاسة بنسبة ٩٦.٩٪ من أصوات الناخبين، رئيسا لمصر، لتكتمل الخطوة الثانية من خارطة المستقبل.
قبل نهاية هذا الأسبوع، تعلن نتائج الدوائر الأربعة المتبقية التي بدأ التصويت عليها في الخارج أمس وتنتهي في الداخل غدا لحسم ١٣ مقعداً تبقت من مقاعد النواب المنتخبين.
بعدها بأيام معدودة.. يصدر رئيس الجمهورية قراره بتعيين ٢٨ نائباً ليكتمل التشكيل الكامل لأعضاء مجلس النواب وعددهم ٥٩٦ نائبا ومن ثم نكون قد أنجزنا آخر خطوات خارطة المستقبل.
< < <
لست ممن يعطون أنفسهم حقاً بغير استحقاق، وينتقدون اختيارات الناخبين لنوابهم، ففي ذلك استعلاء علي إرادة الجماهير، وفيه أيضا وصاية غير مقبولة علي رغباتها.
من حق الجماهير أن تختار من تريدهم وأن تبقي عليهم إذا رأت أو تسقطهم في الانتخابات المقبلة بإرادتها الحرة.
القراءة الأولي لهذه الانتخابات والنتائج التي أسفرت عنها تقول أن النسبة العامة للإقبال «٢٨.٣٪» تخطت توقعات الكثيرين، رغم الانتقادات الإعلامية التي جلدت الشعب علي «تخاذله» عن الخروج للجولة الأولي من المرحلة الأولي للانتخابات، وشخصيا كنت أتوقع أن تكون النسبة ما بين ١٥٪ و٢٠٪.
تقول أيضاً أن هناك نزاهة وشفافية في فرز الأصوات وإعلان النتائج، فلعلنا لم نسمع بين الخاسرين ـ وللمرة الأولي أصواتا تتحدث عن تزوير أو تسويد للبطاقات أو تغيير في النتيجة.
تقول أن هناك نضجا في الاختيار الجمعي للناخبين المصريين، فلم نشهد تصويتاً علي أساس طائفي، بدليل فوز ٣٥ نائباً ونائبة مسيحية بينهم ١١ عبر النظام الفردي، ولم نشهد تصويتاً علي أساس النوع، بدليل فوز ٧٢ من النساء بينهن ١٦ مرشحة فزن في انتخابات المقاعد الفردية.
ثمة استخلاص مهم، هو أن غالبية أعضاء مجلس النواب من الوجوه الجديدة التي لم يسبق لها أن خاضت الانتخابات أو دخول البرلمانات السابقة وهناك نحو ٤٠ نائبا أو يزيد من الشباب تحت سن ٣٥ عاماً ومنهم من لا يملك ثمن لافتات أو أوراق دعاية.
< < <
بشكل عام.. تعبر نتائج الانتخابات عن الحالة المزاجية للشعب المصري هذه الأيام.
فقد فازت شخصيات عامة وإعلامية بمقاعدها من الجولة الأولي أو اكتسحت منافسيها في الجولة الثانية ليس برغم آرائها التي تختلف معها قطاعات في النخبة السياسية والفكرية، وإنما بسبب تلك الآراء التي يبدو أنها تروق لناخبيهم من الجماهير العادية.
سبب آخر.. هو أن الشخصيات العامة الفائزة تظهر بكثافة علي شاشات التليفزيون الذي كان بديلاً ذا شعبية للبرلمان في الشهور الست الأخيرة لحكم الإخوان وطوال الشهور الثلاثين الماضية التي أعقبت ثورة ٣٠ يونيو.
أما عن القوائم، فلا يمكن إغفال أن وجود شخصيات معروفة علي رأس مجموعة القاهرة والصعيد بقائمة «في حب مصر»، أمثال اللواء سامح سيف اليزل والوزير السابق أسامة هيكل والكاتب الصحفي مصطفي بكري والوزير السابق محمد العرابي، كان له أثر في نجاح المجموعتين، إلا أنه لا يمكن إنكار أن اكتساح قائمة «في حب مصر» من الجولة الأولي في قطاعات القاهرة والاسكندرية والصعيد وفوزها بالتزكية في القطاع الرابع وهو شرق الدلتا، مرجعه الرئيسي هو استشعار الناخب أن قائمة «في حب مصر» هي الأكثر قربا من الرئيس السيسي، حتي لو كان الرئيس ـ حقيقة الأمر ـ نأي بنفسه عن الانتخابات، ولم يعلن أو يلمح بتفضيله قائمة عن أخري.
< < <
علي أن هناك ظواهر ست، ينبغي التمعن فيها..
- أولها.. أن الناخب المصري أسقط رموزاً ووجوها عديدة تنتمي للحزب الوطني المنحل، برغم أن توقعات المحللين كانت تراهن علي اقتناص المرشحين المحسوبين علي نظام مبارك معظم المقاعد الفردية.
ـ ثانيها.. أن شراء الأصوات في دوائر عديدة كان علي العيان دون خجل أو وجل، ودون ايضا مواجهة جادة بالقانون، ومع ذلك سقط مرشحون كثيرون راودوا الناخبين البسطاء عن أصواتهم بالمال، وإذا كان لي أن اتحدث عن دوائر بعينها فأمامي دائرة مدينة نصر وهي موطني الانتخابي، فقد أسقط الناخبون أصحاب زكائب النقود من المرحلة الأولي غير مأسوف عليهم، ونجح في الدائرة ثلاثة نواب لا يملكون سوي الاحترام.
ثالثها.. أن الناخب المصري أنجح عدداً لا بأس به من ضباط الجيش السابقين تقديرا لانتمائهم للمؤسسة العسكرية، وأسقط في الجولة الثانية مرشحة كانت قاب قوسين أو أدني من النجاح في الجولة الأولي، بعدما نقل عن حسابها علي «فيس بوك» مقتطف مما كتبته منذ فترة يحمل إساءة للمجلس الأعلي للقوات المسلحة أثناء إدارته لشئون البلاد.
ـ رابعها.. أن انتخابات برلمان ٢٠١٥، لم تكتب نهاية الأحزاب، كما كان يراهن محللون، علي العكس فقد يقترب عدد النواب الحزبيين في المجلس بعد إجراء انتخابات الدوائر الاربع المتبقية من ٢٥٠ نائبا ينتمون إلي ٢٠ حزبا.
ـ خامسها.. ان السقوط المروع لمرشحي حزب النور وقوائمه، كان عقاباً جماهيريا لهذا الحزب الذي شارك بقيادته في إعلان خارطة المستقبل، وسمح لقواعده بالاعتصام في رابعة والنهضة.
- سادسها.. وهي أخطر الظواهر التي تمخضت عن الانتخابات، أن أكبر حزبين ممثلين في البرلمان، يمولان بشكل مباشر ومعلن من رجلي أعمال كبيرين، مما يثير تساؤلات عن مواقف نواب الحزبين من قضية العدالة الاجتماعية، وعن وجهة تصويتهم اذا جري التصويت علي مشروع قانون قد يصطدم بمصالح من موّل حملاتهم الانتخابية!
< < <
السؤال.. ماذا بعد انتخاب البرلمان، وماذا نريد من النواب الجدد؟!
إجمالاً.. قد أختلف مع كثيرين، حين أقول أن التفاؤل عندي بالنواب الجدد، خاصة الوجوه الشابة، يغلب علي التشاؤم، أو لنقل عدم الاستبشار بقدرة البرلمان علي النهوض بالدور المنشود منه في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد.
في رأيي المتواضع، أتصور أن مجلس النواب بتشكيله الحالي، وطبقا للآراء المعلنة مع جانب أعضائه المنتخبين، لن يكون عائقا أمام الرئيس في المضي قدماً وبسرعة في إنجاز المشروع الوطني المصري، بل أظنه سيكون سنداً للرئيس، وعوناً له في تذليل عقبات البيروقراطية والفساد عبر الأداة التشريعية وأداة الرقابة والمحاسبة، وكذلك في الدراسة المتعمقة لبرنامج الحكومة من خلال اللجان النوعية أو هكذا يراودني الأمل!
بالقطع لن يخلو البرلمان من معارضة وأحيانا من شطط، ولست أظن من الصالح العام أن تغيب المعارضة عن أي برلمان، لكني أتصور أنها ستكون موجهة للحكومة لا لشخص الرئيس، وأتوقع أن يُظهر النواب الجدد ـ مستقلين وحزبيين ـ عضلاتهم البرلمانية علي الحكومة حين تعرض برنامجها علي مجلس النواب!
وأكاد أشتم غبار معركة مقبلة ـ لا أتمناها ـ بين مجلس النواب والصحافة والإعلام. فهناك ذكريات غير طيبة لدي الإعلام تجاه البرلمانات السابقة ومواقفها من حرية الصحافة، وأيضا ذكريات غير طيبة لدي البرلمانيين تجاه الصحافة وتناولها لأداء البرلمانات المتعاقبة.
ربما من حسنات انتخاب مجلس النواب ومباشرته مسئولياته، أن الفضائيات التي كانت تقوم بدور البرلمان في الرقابة والمحاسبة والمساءلة، في ليالي مصر طوال السنوات الخمس الماضية، ستعود حتما الي دورها الأصلي كأداة للإعلام والرقابة الشعبية.
وربما من حسنات وجود نواب من الصحفيين والإعلاميين والمرتبطين بالإعلام، أنهم سيكونون ـ أو هكذا أتمني ـ عنصراً مدافعا عن حرية الصحافة والإعلام ومشجعا علي تطوير المهنة ومؤسساتها، عند مناقشة مجلس النواب التشريعات المكملة للدستور المتعلقة بتنظيم الصحافة والإعلام، وعند مناقشته القانون الخاص بإنشاء نقابة الإعلاميين التي ستكون مسئولة عن إصدار ميثاق الشرف الاعلامي وتطبيقه، بجانب ميثاق الشرف الصحفي الذي أصدرته نقابة الصحفيين والمجلس الأعلي للصحافة منذ سنوات.
< < <
تحديداً.. أتوقع كمواطن وكصحفي وكمهتم بالشأن العام، أن تحسن الحكومة إعداد برنامجها وعرضه علي البرلمان، علي أساس خطط تفصيلية واضحة ومشروعات محددة وفق جدول زمني معلن، مع تجنب العبارات العامة والإنشائية التي كانت تقبلها برلمانات «موافقون.. موافقة»، خاصة أن المحك في منح الثقة للحكومة ككل أو لأعضائها كأفراد، هو قدرتها علي عرض برنامج يرتقي إلي طموحات الشعب، وعلي إقناع النواب بأنها تستطيع تنفيذه، وأتمني من مجلس النواب ـ وليس عندي من النظرة الأولي لتشكيله سند يعزز هذا التمني ـ أن يكون علي يسار الحكومة في إظهار انحيازه لقضية العدالة الاجتماعية وبناء دولة الفرص المتكافئة لجميع الأنداد وأتوقع منه ان يعاونها من خلال أعضائه أصحاب الخبرات والدماء الشابة المتحمسة، بطرح أفكار غير تقليدية مدروسة لحل المشكلات وما أكثرها!
وأنتظر من شباب النواب، أن يشكلوا فيما بينهم مجموعة عمل متعاونة، تقدر - علي الأقل بحكم السن - علي التواصل مع القطاعات العريضة من شباب مصر في الدوائر وفي لجان استماع برلمانية، دون إقصاء للمتحمسين أو حتي المشتطين من الوطنيين، ونقل نبضهم ورؤاهم إلي المجلس والحكومة والقيادة السياسية، مبلورة في أفكار وبرامج تجمع الشباب المصري، وحتي أولئك الذين يشعرون بالإحباط، وتحشد طاقاتهم تجاه المشاركة في صنع القرار، وتفرز منهم كوادر قادرة علي تولي مسئوليات تنفيذية وعلي خوض انتخابات المجالس المحلية القريبة والتي لا تقل أهمية بحال عن الانتخابات البرلمانية.
< < <
ها نحن نستقبل البرلمان الجديد ونودع مراحل الانتقال ببراكينها وزلازلها، وندلف بالبلاد من أوضاع التداعي والفراغ والاضطراب السياسي إلي وضع الاستقرار، ومن حالة السيولة إلي حالة التبلور والتماسك وتشكل البناء السياسي.
لكن تظل أمامنا ـ شعبا وقيادة وبرلمانا وحكومة ـ مهمة انتقال أصعب بعد إغلاق آخر صفحات المراحل الانتقالية السياسية.. هي الانتقال بالبلد، وسط حصار المصائد وحقول الألغام وخنادق النار إلي حيث يستحق من تقدم ورفعة، والانتقال بالشعب من مستنقع الفقر والتخلف والإرهاب والفساد، الي حيث يتطلع من معيشة لائقة وأمن وعدالة وكرامة.
.. والحديث يطول.