في حالات جرائم الارهاب لا تختفي بصمات الفاعل فحسب.. وإنما يسودها التعتيم

الدعوة التي وجهها وزير الخارجية الامريكي جون كيري لدول حلف شمال الاطلنطي بتعزيز دعمها للائتلاف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش الارهابي من خلال قصف مواقع التنظيم في سوريا والعراق.. ومشاركة الدول المجاورة لسوريا.. مثل الاردن ولبنان.. تعني اننا امام مرحلة جديدة في الحرب ضد الارهاب.. واعادة ترتيب اوضاع الشرق الاوسط.. وفق المخطط الامريكي الذي وضعه السيد بن رودس مستشار الامن القومي للرئيس اوباما.. وينطبق عليه قول الشاعر العربي القديم:
زعم الفرزدق ان سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع
فحلف شمال الاطلنطي الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٤٩ يضم الان ٢٨ دولة «١٦ دولة من اوروبا الغربية و١٢ دولة من دول حلف وارسو السابق» اي انه مزيج من دول غر ب اوروبا ومن دول اوروبا الشرقية في مقدمتها المجر وتشيكوسلوفاكيا وبولندا وبلغاريا وألبانيا.. علاوة علي دول البلطيق الثلاث استونيا ولتوانيا ولاتفيا الخ.
بمعني ان حلف الاطلنطي بات بأوضاعه الحالية يضم خليطا من الثقافات.. والعقائد العسكرية.. التي ترسخت خلال سنوات الحرب الباردة التي اندلعت لسنوات طويلة بين دول الكتلة الغربية بزعامة امريكا.. والكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتي.
صحيح ان المناورات والتدريبات العسكرية التي قام بها الحلف.. ولاسيما تلك التي قامت بعد انضمام تركيا للحلف سنة ١٩٥٢.. قد ساعدت في اذابة الفوارق بين الدول الاعضاء من الناحيتين العسكرية والسياسية.. بيد أن الحرب التي يقترحها وزير الخارجية الامريكي جون كيري.. والدور الذي يتعين علي الائتلاف العسكري لدول حلف الاطلنطي الاضطلاع به في محاربة عصابات الارهاب المزودة باحدث ادوات القتال.. هي حرب لها مواصفاتها.. واساليبها.. وادواتها المستخدمة لارتكاب كل الوان النذالة.. وهي تختلف كلية عن الحروب بين الجيوش المقاتلة.. وفق عقائد القتال المتعارف عليها.
الحرب بين الجيوش المقاتلة لها قوانينها.. المعروفة لاطراف القتال وتحكمها قوانين الحرب المتعارف عليها دوليا.. ولها ساحاتها القتالية وحدود هذه الساحات.. التي تأخذ في صميم ثقافتها ان يقتصر القتال علي الجيوش.. ولا يمتد بأي حال الي المدنيين والمنشآت المدنية.. من مدارس الي فنادق او ملاعب لكرة القدم.. او دور سينما او مراكز لهو وترويح عن النفس.. وما الي ذلك.
اما الحروب التي تشنها عصابات الارهاب.. فهي اقرب الي الحروب الاهلية التي لا تحكمها اي قوانين او مباديء.. فهي حرب مفتوحة من حيث التسليح.. ومن حيث كونها موجهة بالدرجة الاولي الي المدنيين.. وبالتالي يصبح من المستحيل التنبؤ بموعد الضربة القادمة او نوعية السلاح المستخدم او نوعية الضحايا.
علاوة علي ان عصابات الارهاب تعتمد علي «التصعيد» علي النحو الذي تردد علي اسماعنا في مصر من افواه وسطاء المصالحة.. من باب التهديد والوعيد.
يضاف الي هذا ان عصابات الارهاب.. اعتادت في تخطيطها لاعمال النذالة المفرطة التي ترتكبها الا تترك «بصمة» او دليلا او اشارة يمكن من خلالها التعرف علي مرتكب الجريمة.. وفق القاعدة المعروفة.. وهي ان لكل جريمة بصمة.. تكشف عن مرتكبها.
في حالات جرائم الارهاب لا تختفي بصمات الفاعل فحسب.. وإنما يسودها التعتيم.. ومن الامثلة الواضحة علي ذلك ان العمليات الارهابية التي شهدتها فرنسا في الاونة الاخيرة.. كان عدد ضحاياها من المسلمين اكبر من عدد الضحايا من ابناء الديانات الاخري.. وان العمليات لم تتعرض لمعبد يهودي او كنيسة.. وانما كانت موجهة ضد عامة الشعب بصرف النظر عن الملة او الطبقة الاجتماعية.
ربما يثار هنا السؤال:
لماذا فرنسا بالذات؟
والاجابة ببساطة ان فرنسا تقف في مقدمة الدول التي تشن الحرب ضد الارهاب.. علاوة علي ان سلاح الطيران الفرنسي شن عدة غارات جوية في سبتمبر الماضي.. ضد قوات داعش الارهابية في سوريا.. وفي هذا السياق جاء حادث الطائرة الروسية التي اقلعت من شرم الشيخ للسبب نفسه.. وهو ان الضربات الجوية الروسية ضد قوات داعش الارهابية في سوريا.. كانت موجعة.. وبالتالي جاء حادث الطائرة الروسية وبعده الضربات الارهابية التي شهدتها باريس.. بمثابة «التصعيد» الذي تعتمد عليه الذهنية الارهابية.
والتصعيد ضد فرنسا وروسيا.. جاء لسبب بسيط هو ان الضربات الجوية الروسية والفرنسية.. كانت الاكثر ايلاما من الضربات الامريكية.. وربما لان القوات الفرنسية والروسية اكبر عددا من القوات الامريكية العاملة في مجال مكافحة الارهاب داخل سوريا.. ولا نستبعد في هذا السياق ان قيام الطيران التركي بقصف الطائرة الروسية واسقاطها في منطقة الحدود بين تركيا وسوريا.. يعود للسبب نفسه.
واللافت للانتباه في هذا الصدد ان جماعة داعش الارهابية لا تفرق بين المسلم الذي يعيش ويعمل في فرنسا.. وبين المواطن الفرنسي.. ولا بين المسلم الذي يعيش في اوروبا.. وبين غير المسلم الذي يعيش في اوروبا.. فكلاهما لا يعد مسلما حقيقيا وفقا لثقافة ما يسمي بالدولة الاسلامية.. فالمسلم بالنسبة لها هو الذي يعيش في مجتمع مسلم.. وفي دولة تحكمها قواعد واصول الاسلام من وجهة نظرها بالطبع.
فالمسلم الذي يعيش في اوروبا ليس بمسلم.. وبالتالي فيحق ان يلحق به ما يلحق بغير المسلم الذي يعيش في اوروبا.. ويتحدث اللغات الاوروبية.. ولا يتقن لغة القرآن الكريم.. بسبب بسيط هو ان جماعة داعش لا تدين بالاسلام.. ولا يشغلها امور الاسلام.. وانما هي تؤمن بثقافة «الجهاد» وتعتمد علي المجرم الصغير الذي لا يؤمن بالاسلام.. بأي صورة من الصور.. وانما هو يؤمن بالجهاد.. وثقافة اثارة الرعب في القلوب والخشونة في التعامل.. والتطرف الذي يبيح قتل المغاير له في عقيدة الجهاد.. وهو يشعر بالحقد علي المجتمع.. ويشعر ان هذا المجتمع قد ظلمه وانه لم يأخذ النصيب الذي يستحقه من الحياة وبالتالي فهو يشعر بأن الجهاد هو السبيل كي يأخذ حقه من المجتمع الذي ظلمه.
تبقي بعد ذلك القضية محل هذه السطور.. وهي قضية مشاركة قوات تحالف الاطلنطي في محاربة الارهاب.. وهل يمكن لهذه القوات إلحاق الهزيمة بالارهاب؟
الاجابة هذا السؤال سوف تكشف عنها الايام والسنوات.. وان كنا نري ان حلف الاطلنطي ليس جهة الاختصاص والتخصص في مكافحة ارهاب داعش.. لأسباب كثيرة.. أهمها ان العقيدة القتالية.. التي اعتمد عليها الحلف منذ نشأته سنة ١٩٤٩.. تختلف جذريا عن العقيدة القتالية لجماعات الارهاب.. علاوة علي ان مكافحة الارهاب لها وسائلها وادواتها التي لم تخطر ببال سيادة الوزير جون كيري.. وليس من بينها كلمات الغزل بالطبع.. وكل ما يمكن ان يقال هو بيت الشعر العربي.
زعم الفرزدق ان سيقتل مربعا.. ابشر بطول سلامة يا مربع!