قد تستمع اليوم لتسجيل الخطاب الذي أعلن فيه عبدالناصر القرار التاريخي بتأميم شركة القناة، فتدرك أهمية الحدث الذي غير تاريخ مصر والمنطقة والعالم كله.

لكني استمع للكلمات التسع التي استعادت بها مصر القناة، فأجدها تكتسي لحما ودماء، وطوفانا من البشر أكاد اسقط بين أرجلهم ونحن نزحف نحو القناة في بورسعيد. كأن الجميع يريد ان يلقي بنفسه في مائها، وأن يتنسم هواءها، وأن يجسد مشاعره بأن ما سلب منه قد عاد بعد عشرات السنين.. الفرحة بوسع الدنيا كلها والمشاعر لا توصف. تسهر المدينة حتي الصباح، تحتفل المراكب واللنشات الصغيرة في مياه القناة.
تعرف بعد ذلك ان ما حدث في مدينتك حدث في باقي مدن مصر، وفي كل العواصم والمدن العربية من المحيط الي الخليج، بينما الذهول يسيطر علي عواصم الامبراطوريات كانت حتي هذا الوقت تفخر بأن الشمس لا تغيب عن ممتلكاتها ومستعمراتها في الشرق والغرب!!
منذ اليوم الأول كنا ندرك انهم لن يسكتوا. كانت امام عيوننا تجربة سابقة في ايران قبل سنوات، حين تزعم محمد مصدق انتفاضة شعبية وقام بتأميم البترول، وكان الرد انقلابا أعاد الشاه الذي كان قد هرب، وألغي قرارات التأميم مع فارق واحد ان النصيب الأكبر انتقل من بريطانيا الي أمريكا القائد الجديد لدول الغرب!!
بدأوا الحرب علي الفور، مارسوا كل الضغوط وهددوا بكل العقوبات، حاولوا تعطيل الملاحة في القناة بسحب المرشدين، لكننا نجحنا في إدارتها بمعرفة دول صديقة في مقدمتها اليونان. عقدوا مؤتمرات دولية وكونوا تحالفات وأرسلوا بعثات تحاول التهديد فطردها عبدالناصر، كان الحق معنا، والقانون الدولي يؤيدنا.. ولم يكن معهم إلا القوة.. فكان العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه اسرائيل مع بريطانيا وفرنسا والذي استهدف استعادة القناة وإسقاط النظام في مصر وإعادتها الي هيمنة جديدة او احتلال بثوب جديد.
كانوا يتوقعون أن يسيطروا علي منطقة القناة ويحتلوا مدنها في أيام، فإذا بهم يقفون عاجزين أمام بطولة «بورسعيد» التي ظلت تقاومهم لسبعة أيام متصلة، استخدموا كل الاسلحة ضد مدنيين وقفوا يدافعون عن مدينتهم بالبنادق التي تدربوا علي استخدامها قبل أيام.
هاجموا مدينتنا الجميلة بكل الاسلحة ومن كل الجبهات، كانت أحدث الطائرات تقصفنا طوال اليوم.. ثم تلقي قنابل «النابالم» لتشعل منازل المدينة طوال الليل، وكانت البوارج تطلق مدافعها من البحر، والدبابات تحاول التقدم علي جثث الابطال المقاومين.
سقط آلاف الشهداء وحين تمكن الاعداء من احتلال المدينة ظلت المقاومة مشتعلة، وتصاعدت الإدانة للهجوم الوحشي في كل أنحاء العالم. وبعد أقل من شهرين كان المعتدون يجرون أذيال الخيبة ويرحلون عن بورسعيد في 23 ديسمبر (اليوم الذي لم يعد أحد يحتفل به للأسف الشديد).
انهزم العدوان، ولم تكن النتيجة فقط أن يتعزز قرار مصر باستعادة القناة بل كان أيضا ان معركتنالمنتصرة كانت بابا لاستعادة العرب لثرواتهم المنهوبة من البترول وغيره، وكانت طريقا لتحرير باقي الوطن العربي وافريقيا والعالم الثالث من ذل الاستعمار.
من حقنا أن نقول أننا حين نجحنا في استعادة القناة، كانت شعوب العالم التي وقفت معنا تستعيد هي الأخري حريتها وثرواتها وارادتها المستقلة، بوركت مصر وبوركت القناة التي تحولت ـ بأرواحنا وتضحياتنا ـ من عنوان للاستقلال الي رمز للكرامة الوطنية.