لم يخرج التشكيل النهائي للبرلمان عما توقعناه بالحرف ، فقد توقعنا نسبة تصويت هزيلة في حدود ربع إجمالي الناخبين ، وجاءت النسبة الرسمية المعلنة حول 28% في الجولتين الأوليين وحول 20% في الإعادتين ، وتوقعنا إعادات انتخابية علي الأغلب الساحق من المقاعد الفردية ، وجاءت الإعادات متتابعة وشبه كاملة ، ومع تمثيل مقصور علي نصف أصوات الإعادات زائد واحد بحسب القواعد المعمول بها ، وهو ما قلص من القاعدة التمثيلية للبرلمان الجديد ، وجعله في وضع معلق تماما ، وبقاعدة شعبية لا تكاد تري ، وأشبه بميني برلمان انتخبه «ميني شعب» ، تحول مع كثرة الإعادات إلي «ميكرو برلمان» انتخبه «ميكرو شعب» .
ولا حاجة لأنبئكم بمن يمثل هذا الميني برلمان ، فهو يمثل الذين صنعوه وافتعلوه بأموالهم ، عدد من مليارديرات المال الحرام أخذوا المقاولة علي عاتقهم ، ونزلوا إلي الانتخابات كأنها مواسم صيد وقنص ، نزلوا من «كومباونداتهم» إلي ساحات بؤس المصريين الواسعة ، اشتروا المرشحين ، واشتروا المصوتين ، واصطنعوا تصويتا بالنقل الجماعي والتصويت الجماعي ، واستثمروا في التصويت العائلي والتصويت الطائفي ، ورفعوا سعر الصوت لأعلي رقم ، وفي مباريات شراء محمومة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات المصرية علي إطلاق عصورها ، وكونوا برلمانا علي مقاس المصالح الطافية لرأسمالية المحاسيب ، ومع توافقات محسوسة بين جماعة البيزنس وجماعة الأمن ، ومع وجود استثناءات طفيفة جدا ، لا تكاد تصل إلي عشرة نواب من العناصر الوطنية والديمقراطية والثورية ، ومع وجود هذه الاستثناءات التي تؤكد القاعدة العامة الغالبة بامتياز ، فلا شبهة في حقيقة البرلمان الجديد ، فهو يعبر بدقة عن تحالف مليارديرات النهب والبيروقراطية الفاسدة وعائلات الريف والصعيد الملتصقة تقليديا بالجهاز الأمني ، ويعبر بدقة عمن نسميهم عادة بالفلول ، وهو برلمان ثورة مضادة «بالثلث» ، فاحت رائحته حتي قبل أن يتشكل ، وجرت تهيئة قوانين انتخاباته المتحيزة مع سبق الإصرار والترصد ، وفهم الناس الغاية المقصودة دون شروح ، وهو ما يفسر المقاطعة التلقائية الغالبة ، والتي ضمت ثلاثة أرباع الناخبين ، وفي حركة عصيان مدني تلقائي علي طريقة «خليك في البيت» ، أرادت إهدار أي شرعية سياسية للبرلمان قبل أن يبدأ ، وإضعاف قاعدته التمثيلية إلي أضيق حد ، وإيصال رسالة غضب بليغة من الوضع المختلط القائم كله .
وأخطر ما في الصورة التي انتهي إليها الميني برلمان الجديد ، أنها تنطوي علي احتمالات أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية متفاقمة ، فهو برلمان أنابيب يشبه أحزاب الأنابيب داخله ، لا يسمح ضيق قاعدته التمثيلية بمرور أشواق ومصالح الغالبية الواسعة الساحقة من المصريين ، ولا يكاد يعبر إلا عن مصالح الواحد بالمئة من السكان ، والذين يملكون نصف الثروة الوطنية بالتمام والكمال ، بينما لا مجال لمصالح التسعين بالمئة من المصريين ، وهم مجموع الفقراء والطبقات الوسطي ، والذين يملكون بالكاد نحو ربع إجمالي الثروة ، وهنا جوهر الأزمة ، فالمصالح الأوسع التي لن تجد لها حضورا في قاعات الميني برلمان ، سوف تبحث لها عن مجال آخر للتعبير ، وقد تنتقل إلي الميدان عوضا عن غياب برلمان يمثلها ، وهو ما قد يدفع إلي سطح الحوادث بظواهر غضب اجتماعي متلاحقة ، في صورة مظاهرات واحتجاجات واعتصامات وإضرابات اجتماعية ، فلا أحد يستطيع أن يحبس الحركة الاجتماعية في قبضة يده ، ولا أن يرسم لها إشارات مرور خضراء وأخري حمراء ، خصوصا مع انسداد الطريق الأخضر بضيق وعاء البرلمان ، وبهزال تعبيره عن الناس ، وبجلسات الكوميديا السوداء المتوقعة فيه ، خصوصا مع وجود عدد لا بأس به من «البلياتشوهات» المستعدين لتقديم عروض سيرك ، تكاد تكون استنساخا لفوائض «الجهل» و«الهبل» السائدة في إعلام مليارديرات المال الحرام .
والقاعدة العامة في السياسة كما في الفيزياء ، هي أنك لا تستطيع إغلاق كل الطرق ، ثم تأمن شر انقلاب الريح وانفجار الأواني ، فالمادة تتحول لكنها لا تفني ، وحركة المجتمع لا تتوقف وإن تبدلت صورها ، وهو ما يجعلنا نتوقع عودة إلي ميدان غضب اجتماعي مع انسداد البرلمان ، ومع احتمالات ترادف غضب سياسي مع الغضب الاجتماعي ، ولكن دون ثورة خلع رئاسي علي طريقة ما جري مع المخلوعين مبارك ومرسي ، فلا تزال عند الشارع دواعي أمل في الرئيس السيسي ، وفي مقدرته علي تجاوز مصالح ضيقة لبرلمان هزيل التمثيل ، وفي دفعه لاستخدام صلاحياته الواسعة في حركة تطهير شامل ، تكنس تحالف مماليك المال الحرام والبيروقراطية الفاسدة ، وتقيم اقتصادا صناعيا زراعيا بقاعدة انتاجية صلبة متنوعة ، تمتص بطالة ملايين العاطلين الشباب ، وتنصف صناع الحياة من الفقراء والطبقات الوسطي ، وتنهي امتيازات «رأسمالية المحاسيب» ، وتنتصر لمبادئ العدالة الاجتماعية ، وتفكك الاحتقان السياسي المرشح للتفاقم مع التشكيل المتهافت للبرلمان ، وتخلي سبيل الآلاف من المحتجزين في غير قضايا العنف والإرهاب المباشر ، وتفتح الطريق لتعبئة شعبية عامة من حول الاختيارات والإنجازات الوطنية الكبري للرئيس ، وتقطع الطريق علي تربص الخارج بمحاولات مصر للنهوض .
ولا علاقة بالطبع للغضب الاجتماعي والسياسي الذي نتوقعه ، ولا للأزمة المتفاقمة التي نرجحها إن استمر الحال علي ماهو عليه ، لاعلاقة لذلك كله بالثورات العبثية التي يدعو لها الإخوان ومن حالفهم ، فلن تقوم ثورة ولا يحزنون في 25 يناير المقبل ، ولسبب غاية في البساطة ، وهو وجود الإخوان في خلفية هذه الدعوات ، فالإخوان ليسوا قوة ثورية ولا دعاة ثورة ، وهم قوة يمينية رجعية بامتياز ، وهم قوة ثورة مضادة ، لا ثورة تنتصر للفقراء والطبقات الوسطي ، وقد جربهم الشعب المصري ، وعرف فيهم صورة القرين ـ لا البديل ـ لجماعة مبارك ، ولا يلدغ الشعب من جحر مرتين ، وقد لفظ الشعب الإخوان كشربة «زيت خروع»، وعزلهم عن الحكم ، ثم عزلوا أنفسهم شعبيا بالميل الظاهر للإرهاب و«الدعشنة» ، انتهي المصريون من قصة الإخوان ، وهم يواجهون الآن سيرة الفلول العائدين عبر «ميني برلمان» جديد ، قاطعته الأغلبية الشعبية في التصويت ، وسوف تعامله كخيال مآته ، وتلفظه كشربة الطين .