للقاهرة تأثير منظور وغير منظور في الحياة الثقافية والابداع الفني والأدبي، مع اختفاء المراكز الثقافية الكبري في مختلف أنحاء الوادي اكتسب المركز اهتماما اضافيا، نتيجة وجود الأزهر، ثم جامعة القاهرة، والمعاهد الكبري. مدينة قفط في محافظة قنا كانت مركزا علميا عالميا، وعندما نقرأ كتاب «الطالع السعيد في أعيان أهل الصعيد للإدفوي» نفاجأ بكم ونوعية العلماء الذين عاشوا في جنوب الوادي، ومما أقتنيه مخطوط نادر من الف صفحة عنوانه «تعطير الأرجاء بعلماء جرجا» فيه مئات التراجم لعلماء ومفكرين وشعراء، لن أتحدث عن الاسكندرية وفوه واسيوط وغيرها من المراكز العلمية، حتي بداية القرن التاسع عشر كان طلاب العلم يسافرون الي المراكز الثقافية المختلفة في انحاء مصر للقاء العلماء والتلقي عن كبار العلماء، مع تأسيس الدولة الحديثة بدأت مركزية القاهرة في التضخم، وفي العقود الاخيرة زاد الأمر عن الحد، فالمبدع لا يكتمل ولا يحصل علي اعتراف كامل الا اذا جاء الي القاهرة، أما اذا ظل مقيما، مرابطا في مكانه الاصلي فهو مصنف من أدباء الاقاليم وهذا التوصيف الخبيث يحوي تقييما ضمنيا، كأن التواجد المادي في القاهرة يضفي قيمة أخري علي الكاتب او الفنان، في التصويت علي جوائز الدولة الاخيرة طرح اسم واحد من أهم الروائيين المصريين المعاصرين، مصطفي نصر، وفوجئت بنتيجة التصويت، حصل علي صوتين اثنين، هذه فضيحة، ليس لمصطفي ولكن لأعضاء المجلس الذين يجهلون كاتبا بهذا الحجم، كل مشكلته انه لم يفارق الاسكندرية، ولو ان الابنودي وأمل دنقل وسيد حجاب وحجازي لزموا قراهم ومدنهم ولم يأتوا الي القاهرة ربما أحاط بهم الاهمال وصنفوا من أدباء الاقاليم، ليس مصطفي نصر بمفرده، ولكن معه في الاسكندرية سعيد سالم، وغيرهما، وفي المنصورة واحد من أهم المبدعين وأنشط الفاعلين في الحياة الثقافية، فؤاد حجازي، الذي كان يجب ان يكرم علي أرفع مستوي منذ فترة طويلة، ولكن مشكلته انه لم ينتقل الي القاهرة، وينطبق هذا بقدر كبير علي الشاعر الفريد الدكتور نصار عبدالله الذي يعيش ويدرس في جامعة سوهاج، انتقال المبدعين الي القاهرة مركزالنشر والاضواء يطال مضمون الأدب، فالكتاب في بداية الاقامة يكتبون عن بيئاتهم الاصلية وشيئا فشيئا تزحف هموم المدينة الي قصائدهم وقصصهم وتتواري المنابع، وفي تجربة اخبار الادب حرصت مع زملائي ألا نستخدم قط تعبير (ادباء الاقاليم)، اما أديب موهوب أو لا أديب ودعونا الي تقليب التربة، أي البحث عن المواهب في كل انحاء مصر، المهم الموهبة وليس مكان الاقامة، وماتزال «اخبار الادب» تمضي في نفس الاتجاه تحت رئاسة تحرير الاستاذ طارق الطاهر احد مؤسسيها من البداية، الا ان اختيار الدكتور محمد ابوالفضل بدران الاكاديمي البارز، والشاعر والدارس الممارس للصوفية كشف عن تحول مركزية القاهرة الي عنصرية عند بعض المثقفين الذين هاجموا الوزير عبدالواحد النبوي لأنه أتي بأبوالفضل من جنوب الوادي، والغريب أن معظم هؤلاء الذين أثاروا هذه الضجة وافدون علي القاهرة وليسوا من أبنائها الاصليين، وحتي تبدو فداحة المفارقة لابد من التعريف بالدكتور ابو الفضل بدران لمن لا يعرف وأو لمن يعرف ويتجاهل.. وهذا ما سأقوم به الاسبوع القادم.